المتقاعد العراقي لا يشبه أي متقاعد في العالم في لون الحياة والحقوق. ليست له قوانين تحميه، ولا حزب يدافع عنه. فهو مثل “الكاروك الهزاز” يتمايل باتجاهات مختلفة، فلا هو حي ميت، ولا ميت حي؛ هو نائم مستريح، ومستيقظ نائم. يأن من جور الزمان، وعذابات الشيخوخة والمرض والكآبة المزمنة. بل لديه أحساس نفسي انه عالة على الجميع، وانه في أواخر العمر؛ يعدّها ساعة بساعة، وليس بالشهور والسنين.
المتقاعد العراقي يعيش فوق بيت من النفط، لكن راتبه “تفاليس” مخجلة غير قابلة للحياة والعيش، تمنحه التعاسة أكثر من السعادة، لذلك تراه مُبرمّج على الآهات والشكوى من القريب والبعيد. ربما الكثير منهم يتمنى ساعة مُغادرة الحياة، بدلا من هذه العيشة النكّدة بالعوز واحتفار الذات، وعدم القدرة على تنفيذ متطلبات الأسرة والأبناء والأحفاد.
في بلد يغرق بالنفط والغاز، ويحقق إيرادات نفطية بلغت أكثر من 75 مليار دولار في عام 2021 ويقترب برميل النفط حاليا إلى 96 دولار للبرميل الواحد، فأن حال المتقاعد والموظف مازالا تحت فقر الحال والحاجة، وهدر الوقت، والأعصاب والمتاعب، وعذاب المواجع والتقلبات، وبريق الأمنيات؛ فأيما رجل شذ منهم، فأعلم أنه رجل سلطة، مسؤول فاسد.
بلد تستنزفه النخب السياسية علنا، حيث رواتب ومخصصات الرئاسات الثلاث والنواب والوزراء الموظفين والحمايات 308 مليار دينار سنويا. فقط رواتب رئاسة الجمهورية في موازنة عام 2021 بلغت 35.639 مليار دينار، ومجلس النواب 228.141 مليار دينار، والأمانة العامة ومكتب رئاسة الوزراء 81.176 وهذه الإحصائيات على ذمة قانون الموازنة العراقية لعام 2021.
وكما ترون فأن البلد غارق بالأموال والثروات لكنه مُقسّم بين مفاسد المحاصصة، أما العباد من المتقاعدين والموظفين والعاطلين فأنهم دوما في دائرة الخطر؛ استقطاعات لا ترحم، وقوانين جائرة لحلب ما تبقى من “التفاليس” التي لا تكفي أسبوعا واحدا للعيش بكرامة!
هناك قصة مأساوية أخرى تدمي القلب، وتُشعل الفؤاد حزنا، حيث الحكومة بخيلة على شعبها البائس بالفقر والبطالة، لكنها كريمة على الضيوف. فقد اكتشفتُ أن هيئة التقاعد العامة تعطي رواتب تقاعدية لمواطنين من سبعة أقطار عربية وإسلامية، ويفتح مصرف الرافدين فرعا له في إحدى الدول ليسلم رواتب تقاعدية إلى 80 ألف متقاعد كانوا يعملون في العراق.” دلال ” خمس نجوم، لكنه من المضحكات المبكيات. ابحثوا عن دولة واحدة في العالم تمنح تقاعدا للعامل من غير المواطنين فيها، إلا في عراق الكرم والجود؟!
في دولة المليارات والتريليونات، تقطع أرزاق بعض الأسر لأنهم ليسوا من عصرهم ونظامهم وأيدولوجيتهم. مثلما تسحق كرامة متقاعد اليوم في ذل شيخوخة العمر، والحاجة والقهر والحرمان، بينما ينعم المتقاعدون أصحاب السيادة ومعالي والسياسيون بصنوفهم المختلفة، وأصحاب خدمة الأيام والأشهر، برواتب فلكية مفتوحة!
المشهد المختصر لواقع المتقاعد العراقي، انه يعيش في عصر فساد الأموال المهدورّة، وسياسة الدولة الفاشلة، وظلم القوانين الانتقائية. عراق يسير بالمقلوب، يغيب عنه رحمّة أبوّة الدولة، وحنان وطنية السياسي. لذلك تنتهك كرامة المتقاعد وحقوقه، وتسحق إنسانيته، وتصبح الحياة لديه جحيماً كأنها الموت الأبدي!