يُسهب طيف واسع من المحللين العسكريين وكثير من الهواة، في تقييم الأداء الميداني للقوات الروسية في أوكرانيا، ويسترسل في قراءته المشهد العسكري، حتى أصبح المرء أمام شبه إجماع في الرؤى الأميركية والغربية، بصورة عامة، يفيد بأن القوات الروسية تشهد تعثّراً في تقدمها، وتتكبّد خسائر بشرية عالية، تراوحت بين 2000 و 12،000 عسكري، فضلاً عن المعدات والعربات المحترقة، بحسب المصادر الأميركية، بيد أن الثابت يتمثل بتباطؤ التقدم من أجل درء إيقاع خسائر بين المدنيين.
الحرب الإعلامية الجارية لا تقل ضراوة عن مثيلتها الميدانية في أوكرانيا. "تعثر القوات العسكرية الروسية" كان عنواناً لصحيفة "وول ستريت جورنال"، 18 آذار/مارس الحالي، مشيرة إلى أن الخسائر العسكرية الروسية تقدّر بنحو "2،000 عسكري، بحسب التقديرات الغربية، وهي غير مؤكدة إلى حد كبير".
من بين ثوابت سردية الأجهزة الإعلامية الأميركية، ومراكز الأبحاث والأكاديميين، تسخيف مبررات الخطوة الروسية وترويج هزيمتها نتيجة شراسة المقاومة ومفاعيل العقوبات الغربية عليها، من ناحية، والإيحاء بأن تاريخ روسيا يدلّ على قدرتها على هزيمة أعدائها الغزاة، بسبب استثمارها عواملَ الطقس القارص والجليد الذي يكسو أراضيها فتراتٍ زمنيّة طويلة، كما دلّت عليه هجمات، بل هزائم، كل من نابليون فرنسا بجيش قوامه 690،000 جندي، وهتلر ألمانيا بجيش قوامه 3 مليون عسكري. وفي الحالتين حاربت روسيا وحيدة "من دون حلفاء أوروبيين"، باستثناء المرحلة المتقدمة من الحرب العالمية الثانية.
سردية استذكار "مستنقع أفغانستان – 2" لروسيا في أوكرانيا تعبّر عن نزعات رغبوية وتمنيات غربية، في جوهرها، نظراً إلى تجاهلها الحقائق والوقائع الجديدة، أبرزها قدرة أوروبا في البعدين الأمني والاستراتيجي، ومن خلفها الولايات المتحدة، على تحمّل تداعيات انخراطها في حرب "جديدة" على حدوده،ا وليس في مناطق نائية عن رفاهية شعوبها. إذا ما أضيفَ عاملا اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية والتبادل التجاري العالي معها إلى رغبتها في "حرب طويلة الأجل" من أجل استنزاف روسيا، نجد التناقض البنيوي في معادلة التمنيات تلك.
لعل الأهم في هذا السياق، أن مستنقع "أفغانستان-2"، هو انعكاس تلك الرغبة في أولويات الاستراتيجية الأميركية المعلنة بشأن التصدي للصين كقوة دولية منافسة، وعودة مأزق حذّر منه كبار الاستراتيجيين الأميركيين بشأن عدم خوض حربين متزامنتين في جبهتين، روسيا والصين، على الرغم مما ظهر من قصور في "الأداء العسكري وثُغَرِ التخطيط والتوريد والإعداد والتنظيم" لروسيا. لكن مَواطن الضعف لدى الطرف المقابل أيضاً يدركها الخصم.
برز عقيد الجيش الأميركي المتقاعد، دوغلاس ماكغريغر، كأحد العارفين بحدود القوة الأميركية، وتحذيره لها من الإمعان في مخطط الصِّدام الحتمي مع روسيا. وأوضح مؤخراً أن هدف صنّاع القرار في "واشنطن يرمي إلى إطالة أمد الحرب إلى أقصى مدى، علّها تؤدي إلى إطاحة الرئيس بوتين".
وأضاف "بالنسبة إلى الجيش الروسي، معضلته الأساسية، في البداية، كانت تحقيق طلب التقدم من دون إحداث قدر كبير من الدمار ومن إيقاع خسائر بشرية. الأمر الذي يُنشئ وهماً ببطء التقدم، والذي يستغله الغرب والعالم أجمع، من أجل ترويج أن الخسارة حليفة روسيا" (مقابلة مع شبكة "اي أس بي" للشؤون العسكرية (ASB Military News)، 18 آذار/مارس 2022).
وفي مقابلة أخرى أجراها ماكغريغر حذّر مما ستؤول إليه "رغبات" واشنطن وتحويلها أوكرانيا إلى ساحة حرب كونية بالوكالة، مشيراً إلى "دخول آلاف المتطوعين من أميركا والشرق الأوسط إلى غربي أوكرانيا، يرافقهم دخول جنود من حلف الناتو بالأسلحة ومنظومات صاروخية ضد الدروع والطائرات لقتال روسيا، بالإضافة إلى آلاف أخرى من المتطوعين إلى شرقي أوكرانيا للقتال إلى جانب روسيا".
"الخبير" السياسي الأميركي بالشؤون الروسية، مايسون كلارك، استضافته شبكة "سي أن أن" للتلفزة ليُدلي بدلوه بشأن "توقف تقدم القوات الروسية،" مؤكداً أنها تطبّق "التكتيكات التي استخدمتها في سوريا"؛ أي الحذر الشديد من دخول المدن. وأردف معرباً عن اعتقاده بشأن "تمكّن القوات الروسية في النهاية" من الاستيلاء على مدينة ماريوبول "المحصّنة جيداً منذ سنوات، وهو العامل الذي سيغيّر مجرى الحرب، لأنه سيحرر الكثير من القوات الروسية" لاستئناف عمليات أخرى. كما أن السيطرة على ماريوبل ستوفر لروسيا إنشاء ترابط جغرافي بينها وبين شبه جزيرة القرم. جاء ذلك التصريح اللافت قبل يوم تقريباً من إعلان انتهاء المعركة الرئيسية حول محاصرة ماريوبل. (شبكة "سي أن أن"، 18 آذار/مارس 2022).
أيضاً، حذّر خبير الشؤون الدولية في أسبوعية "نيوزويك"، دانييل ديبتريس، الإدارة الأميركية من تبعات مخططها لـ "تسليح المعارضة الأوكرانية، والتفكير ملياً قبل الانغماس فيما سيكون عليه حرباً دموية بالوكالة ضد موسكو،" وعدم الاستهانة بتكلفتها في مستويات متعددة (9 آذار/مارس 2022).
ومضى مذكِّراً بلاده بأن "القوى العظمى لا تطيق جيرة من الخصوم. وبالنسبة إلى الكرملين، تشكّل أوكرانيا خطاً أحمر." كما أن دعم واشنطن لمعارضة أوكرانية يستدعي تحلّيها بالصبر وديمومة الدعم "طوال أعوام، وربما عدة عقود" متواصلة، قبل أن تؤتي أكُلها، مع ما ستلجأ إليه روسيا من قصف لقواعد الإمداد الخلفية في بولندا ورومانيا، وما سينطوي على ذلك من انزلاق الحرب إلى مآلات غير محسوبة بدقّة، ليس أقلها حرباً مباشرة بين الحلف وروسيا.
كما ساهم في ترويج هزيمة روسيا، مستشار الأمن القومي الأسبق، ه. آر. مكماستر، مؤكداً أن القوات الروسية "أثبتت عدم فعّاليتها في مستوى تنفيذ العمليات العسكرية المشتركة" بين الأذرع المتعددة. وبلغت خسائر روسيا، بحسب الصحيفة، أكثر من 230 عربة ثقيلة مدرعة مدمّرة، واغتنام بعضها (صحيفة "وول ستريت جورنال"، 18 آذار/مارس 2022).
الجائزة الكبرى للطرفين، روسيا وحلف الناتو، هي مصير العاصمة كييف. روسيا تحاصرها ببطء من 3 اتجاهات، لكنها ربما تعاني توفّر قوات ذات خبرة قتالية عالية، بحسب المراقبين الأميركيين، من أجل استكمال طوق الحصار، في مقابل موجات متلاحقة من الدعم الميداني الغربي لحكومة كييف، بكل أنواع الأسلحة ومنظومات الدفاع الجوية والصواريخ ضد الدروع، وتخزين المواد الغذائية، وضمان وصول الإمدادات العينية إلى المدن الكبرى الأخرى، خاركوف وأوديسا وماريوبول.
يلاحظ أيضاً أن روسيا مقتصدة في تدميرها خطوط الإمداد الخلفية لكييف، وتتمدّد قواتها في الطرق الرئيسة، الأمر الذي يُفسح المجال لاصطيادها، نظرياً، من جانب قوات كييف وحلف الناتو، وخصوصاً نتيجة ترددها في السيطرة على مفترق طرق رئيسية قريبة من كييف، مدينتي تشيرنيهيف وسومي.
في السياق ذاته، تراهن كييف على إنجاز تشكيلات من "المتطوعين والمرتزقة" الدوليين، وخصوصاً من أميركا وكندا وبريطانيا، من أجل دعم جهدها الحربي في قتال القوات الروسية. لكنّ الخبراء العسكريين يعتقدون أن تلك الخطوة ليست كافية لوقف التقدم الروسي أو تمديد تورطه الميداني، بل ربما هي عنوان مضلِّل لدخول قوات نظامية وشبه نظامية غربية من أجل تعزيز قوات حكومة كييف، ليس لإدامة أمد الحرب وتصعيد حرب الاستنزاف فحسب، أيضاً من أجل إبطال مفعول أي توجه إلى حلّ سياسي يلبي شروط موسكو.
عامل الصين
تَنَبهّت واشنطن "متأخرة" لضرورة تواصلها مع الصين، بغية التأثير في موقفها العام، وخفض مستوى علاقاتها المتقدمة بموسكو. وأوفدت مستشارها للأمن القومي، جيك سوليفان، برفقة قائد سلاح الجو الأميركي في المحيط الهاديء، كينيث ويلزباك، يوم 14 آذار/ مارس الحالي، من أجل لقاء مستشار الأمن القومي لبكين، يانغ جيشي، في روما.
مهّدت أميركا لالتئام اللقاء بتصريحات تصاعدية بلهجة تهديدية للصين، عنوانها أن مصالحها الدولية تكمن مع الغرب، كما تدلّ بيانات التبادل التجاري العالمية، ومطالبتها بعدم تقديم الدعم المالي أو التجاري إلى روسيا، على خلفية الصراع في أوكرانيا.
بينما جاء بيان مجلس الأمن القومي الأميركي، في 14 آذار/مارس الحالي، بلهجة مغايرة توددية، مشيراً إلى "لقاء سوليفان مع عضو المكتب السياسي للجنة المركزية (للحزب الشيوعي) ومدير مكتب لجنة الشؤون الخارجية، يانغ جيشي، استكمالاً للقاء إفتراضي، يوم 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2021 بين الرئيس بايدن والرئيس شي، وأجريا نقاشات معمّقة بشأن حرب روسيا ضد أوكرانيا".
الفضيحة الأكبر، كما وصفتها الصحافة المحلية، تجسّدت في "المحاضرة" التي لجأ إليها الجنرال ويلزباك من أجل تذكير الجانب الصيني بـ "دروس أساسية" من أزمة أوكرانيا لناحية العقوبات الجماعية التي تنتظر الصين إن قرّرت الهجوم على تايوان.
سعى الجانب الأميركي لاحتواء التداعيات الناجمة عن اللقاء المثير على عجل، بإعلانه عقدَ لقاء افتراضي عبر الفيديو بين رئيسي البلدين، 18 آذار/مارس الحالي، استغرق نحو ساعتين، وأوضح البيت الأبيض أن الرئيس بايدن "أكّد دعمه إيجاد حل ديبلوماسي للأزمة، وأن السياسة الأميركية بشأن تايوان لم تتغير"، بحسب البيان الرسمي.
بيان الجانب الصيني، بحسب التلفزيون الرسمي، أشار إلى قول الرئيس الصيني "إنه يتعيّن على جميع الأطراف دعم الحوار والمفاوضات بين روسيا وأوكرانيا بصورة مشتركة"، بينما يتعين على "الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إجراء محادثات مع روسيا من أجل حل "جوهر" الأزمة الأوكرانية وتبديد المخاوف الأمنية لكل من روسيا وأوكرانيا".
اللافت والغائب عن التغطية الإعلامية كانا قرار الصين بشأن تسيير حاملة طائراتها "شاندونغ" لعبور مضيق تايوان قبل موعد المكالمة بزمن قصير، كأنها رسالة صينية مسبقة تثبت فيها عزمها عدم التنازل أو التفاوض بشأن مستقبل جزيرة تايوان. رسالة التقطها الرئيس الأميركي على الفور عبر تأكيده سياسة "الصين واحدة".
الدوائر السياسية الأميركية تعرف شخصية يانغ تشي جيداً، عبر مقال مطوّل له وجّهه إليها في 10 آب/أغسطس 2020، بعنوان "احترام التاريخ واستشراف المستقبل والحفاظ على استقرار العلاقات الصينية الأميركية". ومن بين ما جاء في تحليله المطوّل للعلاقة الثنائية بين واشنطن وبكين " يمر العالم الآن في التغيرات الكبرى غير المسبوقة منذ مئة عام، ولا يزال السلام والتنمية عنوانين رئيسيين في عصرنا. وتتحمل الصين والولايات المتحدة المسؤولية والمُهمّات المشتركة من أجل الحفاظ على سلام العالم وتعزيز التنمية المشتركة، وذلك يتطلب من الجانبين النظر إلى العلاقات بينهما والتعامل معها على نحو صحيح وملائم، وإيجاد طريق التعايش السلمي بينهما على الرغم من الاختلافات".
وحثّ تشي الولايات المتحدة على "نبذ عقلية الحرب الباردة واللعبة الصفرية، ووقف التنمّر على الشركات الصينية، والوقف الفوري للتدخل في الشؤون الداخلية الصينية". كما طالبها، في الختام، بـ "احترام الحقائق التاريخية، وتصحيح الأخطاء وتغيير النهج المتّبع، وإدارة الخلافات على أساس مبدأ الاحترام المتبادل" (وكالة "شينخوا" الرسمية باللغة العربية، 10 آب/اغسطس 2020).
بعَرض ما يجري من جدل وتوجهات داخل مؤسّسات النخب السياسية والفكرية والإعلامية الأميركية المتعدّدة، نستطيع إيجاز المشهد الأوكراني في جملة حقائق: ترمي الولايات المتحدة إلى إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، وتوريط الدول الأوروبية في ذلك الصراع من أجل تسخيرها لاحقاً في صراعها مع الصين. أمّا أوكرانيا فهي بمثابة كبش فداء تدمّرها أميركا من أجل إضعاف أوروبا وروسيا معاً، ولن تساهم جدّياً في تقدم المفاوضات "المتعثرة" الجارية، أو نجاحها.
أميركياً أيضاً، ليس امام روسيا من خيار إلاّ دخول كييف وتقسيم أوكرانيا، شرقيها وجنوبها لروسيا، وغربيها منطقة محايدة بين حلف الناتو وروسيا، وإدامة الأزمة من أجل خدمة سياسة إغراق روسيا بحرب استنزاف مكلفة.
الثابت بين كل تلك العوامل والنيات الأميركية هو عدم التدخل المباشر لقوات أميركية في الصراع الجاري، كي لا تستفز روسيا وتنشب حرب كونية أخرى، قبل أن تتفرغ واشنطن لتقييد الصين واحتواءها في أفضل الأحوال. زمن ما بعد أوكرانيا لا ولن يشبه حقبة ما قبل العملية الروسية.