الشعور بالملل أشبه بالوقوع في الفخ، ولعله أقرب إلى الوسواس الذي يحكم سيطرته على مشاعرنا تجاه الأمور والعالم حولنا، فيجردها من ألوانها وجاذبيتها ويتركنا أمام مفترق طريقين، أسهلهما يقود إلى الكآبة وتجنب الأنشطة المعتادة والحياة، أما الطريق الصعب الذي ينجو به القلة فهو طريق الابتكار وخلق مساحات جديدة في الحياة على مختلف الصعد.
من الصعب تحديد هوية ثابتة للملل، فهو متحول يشبه الوسواس نوعاً ما، وما أن يتملك من الشخص ويوقعه بالفخ، حتى يبدأ بالتنقل والسيطرة على مشاعره تجاه مختلف التفاصيل التي تشكل عالمه، فيشعر بالملل من التلفزيون ومن الأصدقاء ومن الملابس والمنزل والأماكن التي يذهب إليها، فينتقل هذا الملل إلى كل فكرة تطرأ على بال الشخص، بهدف الخروج من هذه الحالة.
وربما يكون الشعور بالملل وفقدان المعنى إشارة إلى أننا لا نتشارك مع العالم المحيط بنا بالشكل المناسب، وأحيانا تكون تلك المشاعر صوتا يخبرنا أن نجرب ما نفعله لكن بشكل أفضل، أو نجرب أشياء جديدة تماما.
يمكن للملل أن يجتاحنا حتى مع الوظيفة الجيدة، أو الأنشطة الهادفة، التي ربما نشعر أنها أسهل أو أصعب مما نعتقد، وقد يلجأ بعض الناس أحيانا للأنشطة التي تجعلهم يشعرون بتحسن لحظي، لكنها لا توفر معنى أو تحديا طويل الأمد، مثل مشاهدة التلفاز أو التهام الوجبات الخفيفة، أو حتى النوم للهروب من تلك المشاعر.
ما الأسباب التي تجعل البعض أكثر عرضة للشعور به؟
لا شك أن رحلة الفضاء تنطوي على مشاعر مروعة بكل المقاييس، بدءا من صوت احتكاك الصمامات واهتزاز المعدات، مرورا بقوة الدفع لحظة اشتعال المحرك، التي تشعر من فرط قوتها أنك تلقيت ركلة في ظهرك، وصولا إلى الشعور المزعج بأن هذه اللحظات قد تكون الأخيرة في حياتك.
في عام 1982، شعر فالينتين ليبديف، رائد الفضاء الروسي، في ثاني رحلة فضائية في حياته المهنية، أن الصاروخ يترنح يمينا ويسارا، كما لو كان فقد توازنه. وفي النهاية تيقن أنه غادر الأرض.
وكان ليبديف مفعما بالنشاط والإثارة في بداية الرحلة، لكن سرعان ما خفتت عزيمته، وبعد أسبوع واحد من مهمته على متن المحطة الفضائية ساليوت 7، التي استغرقت سبعة أشهر، استسلم للملل.
إذ لم يكن الانطلاق بسرعة 17,900 ميل في الساعة على المدار الأرضي المنخفض في مركبة فضائية كافيا لإثارة اهتمامه. وكتب في مفكرته، "بدأ الروتين الممل"، وقد نميل للاعتقاد أن الملل هو رد فعل مباشر ومبرر للأنشطة الرتيبة. فنادرا ما تجد شخصا مثلا يستمتع بغسل الصحون أو إعداد الإقرار الضريبي. ولو ذكر شخص أنه يستمتع بمثل هذه الممارسات، فسوف يثير ارتياب من حوله.
غير أن الملل لا يوجد له تعريف واضح، إذ كشفت أبحاث امتدت لعقود أن الملل شعور غامض بقدر ما هو مؤلم، وأن القدرة على احتمال المهام الرتيبة تتفاوت بشدة من شخص لآخر، ويقول جيمس دانكيرت، رئيس مختبر الملل بجامعة ووترلو بأونتاريو: "أعتقد أن جميع الناس يشعرون بالملل، لكن البعض لديهم قدرة مدهشة على التعامل معه".
وفي عام 2014، أجرى علماء نفس من جامعة فيرجينيا سلسلة تجارب عن شرود الذهن، واكتشفوا أن نحو 25 في المئة من المشاركات و67 في المئة من المشاركين، عندما تركوا لمدة 15 دقيقة فقط بمفردهم بجوار صواعق كهربائية - كالتي تستخدمها الشرطة - كانوا يصعقون أنفسهم عمدا من باب التسلية. وصعق أحدهم نفسه نحو 200 مرة.
وبخلاف التجارب المعملية، كشف الحجر الصحي مؤخرا عن أساليب غريبة ابتكرها بعض الناس لكسر الملل، منها قيام أحدهم بإعداد وليمة "بابلية" نقلها من وصفة محفورة على لوح طيني عمره 3,750 عاما تعود لحضارة بلاد الرافدين، واعتزام أخرى خوض اختبار المرحلة الثانوية الذي اجتازته منذ سبع سنوات، بدافع الفضول.
وعلى النقيض، يبحث بعض الناس عن تجارب قد تعد في نظر البعض مملة. إذ يزعم الناسك كريستوفر نايت، الذي قضى 27 عاما في إحدى الغابات بولاية مين عام 1986، أنه لم يشعر بالملل قط، رغم أنه لا ينكر أنه لم يكن يفعل شيئا في معظم الوقت.
ما أسباب ذلك؟
ربما يكون الفيلسوف الروماني سينيكا هو أول من رسخ عادة الشكوى من الملل. إذ تساءل سينيكا في رسالة إلى صديقه: "إلى متى علينا أن نحتمل أداء نفس الأعمال الرتيبة؟"، وتابع: "أنا لا أفعل شيئا جديدا، ولا أرى شيئا جديدا، وهذا أيضا يصيبني بالغثيان".
وراج في العصور الوسطى مصطلح يوناني يعني "اللامبالاة"، وكان يعده رجال الدين المسيحيون مرادفا للفتور الديني أو الكسل الذي يندرج ضمن الخطايا السبع، ودخلت كلمة "ملل" إلى اللغة الإنجليزية منذ مطلع القرن التاسع عشر، لكنها لم تجر على الألسنة إلا بعد أن ذكرها تشارلز ديكنز في إحدى رواياته.
وقد انتشر الآن الملل في كل مكان، حتى إنه يوصف أحيانا بأنه آفة المجتمع المعاصر. وفي عام 2016، قاضى موظف فرنسي رئيسه السابق في العمل، لأن الموظف كان يشعر أن وظيفته مملة إلى حد "يثبط العزيمة" و"يقتل الإبداع"، وحكمت المحكمة لصالحه.
وابتكر مواليد "الجيل زد"، الذين ولدوا في الفترة من منتصف التسعينيات إلى أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، نوعا جديدا من الملل، يدعى "ملل الهاتف"، حين تتصفح تطبيقات الهاتف بلا هدف، ولا تجد شيئا مثيرا للاهتمام، واكتشف بعض الباحثين مؤخرا أن الحيوانات الأليفة أيضا تصاب بالملل.
تعريف الملل
لم يكن من السهل الكشف عن الأسباب التي تجعل البعض سريع الضجر في حين قد يعيش آخرون دون أي مصدر للترفيه، وذلك لأن علماء النفس لم يتفقوا حتى الآن على تعريف للملل، وفي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، عرّف بعض الباحثين الملل بأنه الشعور الذي ينتاب المرء عند أداء مهمة تتسم بالتكرار. وأشارت دراسة إلى أن الملل قد يزيد القدرة على الانتباه والاستجابة لكل ما يدور من حولنا.
إذ طلب الباحثون من متطوعين من الجيش أن يضغطوا على زر عندما يروا ومضات من الضوء تنبعث من أحد الصناديق، وخلصت الدراسة إلى أن الملل يولد حالة من التيقظ والحذر، ومنذ عام 1986، استخدمت الكثير من التجارب "مقياس سرعة الإصابة بالملل" من خلال طرح أسئلة لتقييم مدى موافقة المشاركين على عبارات مثل "من السهل أن أركز أثناء تأدية أنشطتي"، وكلما زاد تأييد المشاركين للعبارة كانوا أقل عرضة للملل.
ويدرك علماء النفس الآن أن هناك خمسة أنواع على الأقل من الملل، منها "الملل القياسي"، حين يشرد ذهنك وتشعر أنك لا تجد شيئا تفعله، و"الملل التفاعلي"، حين يتملكك الغضب من الشخص الذي أرغمك على أداء هذه المهمة المملة، كالمدرس أو المدير في بيئة العمل، وتفكر في الأشياء التي كان يمكن أن تفعلها في المقابل.
وهناك أيضا "ملل البحث"، حين تكون مضطربا ومتململا وتبحث عن أشياء تفعلها للتخلص من الملل، و"ملل اللامبالاة"، حين تشعر بالراحة وتنفصل عن العالم من حولك، واكتشف مؤخرا "ملل عدم الاكتراث"، حين تشعر أنك لست منزعجا ولا سعيدا، لكنك عاجز عن التخلص من هذا الملل.
وأجرى باحثون دراسات عن تأثير الملل على الدماغ. إذ قاد دانكيرت دراسة استخدم فيها الباحثون التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي لمراقبة أدمغة المشاركين أثناء مشاهدة مقطع فيديو شديد الملل عن رجلين ينشران ملابسهما، ويسألان بعضهما بين الحين والآخر عن مشابك الملابس.
ولاحظ الباحثون وجود صلة بين الملل وبين نشاط "شبكة الوضع الافتراضي"، وهي مجموعة من المناطق من الدماغ ترتبط عادة بشرود الذهن. ويقول دانكيرت إن هذه الشبكة تنشط عادة في حالة عدم وجود مهام تؤديها أو عندما لا يوجد شيء يحدث من حولك.
ويقول دانكيرت إن إشارات الملل هي رسالة من الدماغ مفادها أنك لا تتفاعل مع العالم من حولك، أي أنك فقدت السيطرة على البيئة المحيطة بك وأنك غير مؤثر. وربما تطور لدينا الشعور بالملل، كشأن سائر المشاعر السلبية كالغضب والحزن، لتحفيزنا.
ويضيف أن البشر يبحثون دائما عن وسائل لشغل تفكيرهم. إذ نريد دائما أن نستغل قدراتنا العقلية في أمور مفيدة، ولهذا يستطيع بعض الناس البقاء بمفردهم لسنوات، بينما لا يتردد آخرون في صعق أنفسهم بعد 15 دقيقة فقط من العزلة. ففي الوقت الذي يستسلم فيه البعض لمشاعر الضجر والملل، تدفع هذه المشاعر آخرين للبحث عن طرق لتسلية أنفسهم وممارسة أنشطة هادفة.
وعلى النقيض من ليبديف، لم يهدر رائد الفضاء الكندي كريس هادفيلد، لحظة واحدة في بعثته الفضائية عام 2012 إلى محطة الفضاء الدولية، رغم المهام الرتيبة وقلة فرص مخالطة الآخرين، وأعلن هادفيلد أكثر من مرة أن "الملل لا يصيب إلا الناس المملة". واستفاد هادفيلد من وقت فراغه لأداء أغنية للمغني ديفيد بوي من الفضاء. ويقول دانكيرت: "إذا تحدثت إليه، ستدرك أنه يتلقى إشارة الملل، لكنه يتعامل معها بسرعة وبكفاءة فائقة".
واستطاع هادفيلد في الفضاء أن يجد متعة في تأدية المهام التي اشتهرت بأنها تبعث على الضجر، مثل أعمال السباكة. ويحكي أنه عندما كان طفلا يساعد أبويه في المزرعة بأونتاريو، كان دائما ما ينجح في الوصول إلى حيلة لشغل نفسه، حتى عند أداء المهام الأكثر رتابة مثل تمهيد التربة، وربما لو سرنا على درب هادفيلد، لأصبحت المهام المملة ذات مزايا مدهشة. فقد أثبتت دراسات أن شرود الذهن أثناء أداء المهام الرتيبة قد يحفز الإبداع.
عيوب الملل
ويقول دانكيرت إن بعض الدراسات ربطت ما بين سرعة الضجر والشعور بالضيق، وبين السلوكات القهرية وإدمان المخدرات وإدمان القمار والاستخدام القهري للهاتف المحمول، والاكتئاب والصدمة النفسية التي تظهر في صورة أعراض بدنية، مثل الألم.
والغريب أن سرعة الضجر ارتبطت أيضا بعدة اضطرابات شخصية، منها النرجسية، لكن ليس النرجسية المعتادة التي يتسم بها بعض الساسة، وإنما "النرجسية الخفية"، التي تنطوي على شعور المرء بأنه موهوب للغاية، لكنه لا يحصل على التقدير الذي يستحقه.
ولا أحد يعرف بعد سبب العلاقة بين الاثنين، لكن بعض الباحثين يرى أن اتساع الفجوة بين الأهداف وبين القدرات الطبيعية يعد أحد أهم أسباب الفشل. وعندما يتحقق المرء من عجزه عن تحقيق أهدافه، يسيطر عليه الملل.
في حين يرى آخرون أن أصحاب النرجسية الخفية عندما يحصلون على الثناء الذي يلهثون وراءه، يفقدون الهمة ويشعرون بالملل، وعلى عكس النرجسية الواضحة التي يشعر أصحابها بالسعادة ويبالغون في تقدير ذواتهم، فإن النرجسية المستترة تسبب مشاكل نفسية.
وربطت دراسات بين الملل وبين سمات شخصية أخرى، مثل سرعة الغضب والعصابية، والميل إلى القلق والشعور بالذنب والغيرة. وفي كل الأحوال، فإن الملل مؤشر سيئ، وقد يكون ناتجا عن عدم القدرة على التحكم في المشاعر.
ويقول دانكيرت إننا نحاول أن نفهم طبيعة العلاقة بين الملل وبين هذه الاضطرابات الشخصية والمشاكل النفسية، مثل الاكتئاب، فليس من الواضح ما إن كان الملل يورث الاكتئاب أم أنه يعد من العوامل التي تنذر بالإصابة بالاكتئاب.
لكن السؤال الأهم الذي يحاول دانكيرت الإجابة عليه هو ما إن كانت القابلية للإصابة بالملل تكتسب من البيئة أم إنها تنتقل بالوراثة، ويرى دانكيرت أن الشعور بالملل، كشأن جميع المشاعر، هو محصلة لعوامل مكتسبة ووراثية. فيبدو أن هادفيلد طور قدراته على التعامل مع الملل حتى أتقنه، وربما يتمكن أضيق الناس صدرا وخلقا من الاستمتاع بالعزلة وشغل وقت الفراغ في أعمال هادفة، لو استخدموا الأساليب الصحيحة.
ولهذا إذا لاحظت أنك تشتكي من الحياة الرتيبة والمملة، فكر في مدى اختلاف تجربة ليبديف عن تجربة هادفيلد في الفضاء، وستدرك حينها أن العبرة برؤيتك الخاصة للأمور.
لا تدع الملل يقتلك
هنا بعض الخطوات التي قد تساعدنا على تجاوز الشعور بالملل: الاستمتاع بالسكون، أصبحنا حاليا نتغذى على الترفيه أو العمل. لم يعد الناس يعرفون معنى الجلوس بهدوء فقط. نشعر بالذنب عندما لا نفعل شيئا ما، بسبب الرغبة المستمرة في التحفيز الحسي. إذا كان الملل رغبة في التحفيز الحسي، فإن عكسه الرضا وتجربة الاستمتاع بالسكون والاسترخاء.
البحث عن إيقاع، يساعد الروتين على تنظيم الأيام، وتوفير إحساس بالتماسك والأمان الذي يعزز معنى الحياة. ويظهر الملل غالبا مع الناس وقت التقاعد، أو ترك العمل أو مع أي تغير في روتين الحياة. عن طريق إيجاد روتين يومي حتى لو كان بسيطا، يمكننا تجاوز الملل.
كن أكثر تركيزا، ركز أكثر على ما يسهم في تحقيق أهدافك الرئيسية في الحياة، وابدأ في تنفيذ المشاريع المؤجلة، سواء كانت مشاريع إبداعية، أو عملية أو مشاريع قراءة، أو ممارسة الرياضة، أو حتى تجديد المنزل، وتغيير أماكن الأثاث. يعتبر أيضا ترتيب الغرف والمكتبات، وخزانات الملابس، وإعادة فرز محتويات الحاسوب من أكثر الأفعال دفعا للملل.
الشعور بالتعب وقلة التركيز قد يكون إشارة على وجود مشاكل في الكبد. (النشر مجاني لعملاء وكالة الأنباء الألمانية “dpa”. لا يجوز استخدام الصورة إلا مع النص المذكور وبشرط الإشارة إلى مصدرها).
التخطيط وصنع هدف، يعمل التخطيط وترتيب الأولويات على عدم وجود فجوات زمنية قديمة تشعرنا بالملل. يمكن الترتيب عن طريق تقسيم المشاريع الكبيرة إلى مشاريع أصغر، الأمر الذي يبقيك منتجا، بدلا من مجرد الانشغال دون هدف، لأن الملل غالبا ما يخفي مشكلة، حيث تريد القيام بنشاط معين، ولكن هناك شيئا ما يمنعك. لذا اكتشف ما تريد القيام به فعلا، عن طريق طرح الأسئلة على نفسك، مع الإجابة بصدق:
حدد وقتا معينا للأنشطة التي تشعر حيالها بالملل، مثل الرد على الرسائل أو البريد الإلكتروني، بدلا من السماح لها بالتسبب في انقطاعات مستمرة خلال اليوم.
حوّل الأعمال الروتينية المملة إلى فرص للتعلم، مثل الاستماع إلى كتاب صوتي أو محاضرة أثناء القيادة أو الأنشطة اليومية.
ضع رؤية لحياتك، وحدد كيف يساهم كل ما تفعله في تعزيزها، أو الانتقاص منها. ربما بعض الأشياء التي لا تتوافق مع رؤيتك هي نفسها الأشياء التي تسبب الضجر. بعد تحديد الأنشطة ذات الأولوية المنخفضة، يمكنك محاولة جعلها أكثر جدوى، أو حتى التخلص منها نهائيا.
من السهل الانغماس في أهداف خارجية متعددة، لا تفي بوعودها في النجاح أو الإنجاز، لذلك يجب التركيز على الأهداف البعيدة التي تحسن جودة الحياة بشكل كامل، إلى جانب العمل الذي يوفر الدخل المادي.
الملل ليس كالإرهاق، يحدث الأول عندما تملك وفرة في شكل واحد من أشكال الطاقة. مثل أن تجد نفسك غير قادر على إنجاز العمل، لكن في الوقت نفسه لا تشعر بالتعب الجسدي. هنا يجب البحث عن مقاربة لدفع الملل، مثل الخروج لممارسة الرياضة.
لا يمكن التخلص من الملل بطرق خارجية فقط، ولا يقتصر الأمر على ما تفعله، ولكنه يتعلق أيضا بكيفية فعله. إذ يجب أن يكون لكل منا عالمه الداخلي، الذي يمكنه فيه العثور على ما يفضله، والخروج بأفكار جديدة، أو الحوار مع الذات، والتخطيط للمستقبل، وكلها أفكار يمكن استكشافها داخل العقل دون أي حافز خارجي. لذا يمكن استخدام لحظات الملل لاستكشاف الاحتمالات المختلفة داخل العقل، مع فك القيود قليلا، والقبول عندما تصبح المقاومة غير مجدية.
الملل يؤثر في حياة الإنسان اليومية
الملل حالة عاطفية يمر بها الإنسان عندما لا يجد ما يفعله وعندما لايشعر بالاهتمام بمن ولا بما يحيط به، وبحسب ما ذكر اختصاصيون على موقع "ديلي ميل" فإن الملل حالة وجدانية عابرة يفقد فيها الإنسان اهتمامه بالموجودات ويصعب عليه التركيز فيما يفعله، ويرى مارك ليري، أستاذ عالم النفس والأعصاب ومدير برنامج علم النفس الاجتماعي في جامعة ديوك في نورث كالورينا، فالملل تجربة مؤثرة مرتبطة بعملية انتباه معرفي.
ويوصف الملل في علم النفس الإيجابي، بأنه استجابة لتحد معتدل يواجهه شخص يمتلك من القدرات ما يمكنه من التغلب على هذا التحدي، وبعد دراسات عدة تناولت موضوع الملل، قال الباحثون إن الملل عامل رئيسي يؤثر في مناطق مختلفة من حياة الإنسان اليومية، وتوصلت دراسات إلى أن الأشخاص الذين يتعرضون لدرجات بسيطة من الملل يتميزون بأداء جيد في مختلف أنشطة حياتهم اليومية، متضمناً ذلك المهنة التي يمتهنونها، وحياتهم الدراسية، واستقلاليتهم، كما ذكرت أن تفاقم الشعور بالملل يصل به إلى درجة الاكتئاب السريري، ويمكن أن يتشكل في صورة عجز مكتسب، وهي ظاهرة ترتبط بشدة بالاكتئاب .
ويرى كثير من الفلاسفة المهتمين بمجال التربية أنه إذا تربى الطفل في بيئة تفتقر إلى المنبهات والمثيرات لايسمح لهم فيها أو لا يشجعون على التفاعل مع بيئتهم فسوف يفشل في تطوير قدراته الذهنية.
وفي المجال التعليمي ربما يصاب الطالب بالملل نتيجة عدم فهم ما يجري من حوله، فمثلاً إذا فقد المتعلم تركيزه أو اهتمامه بموضوع محاضرة فسوف يراها شيئاً مملاً، والعكس صحيح، فالشيء الذي يسهل فهمه واستيعابه لبساطته المبالغ فيها ربما يؤدي إلى الشعور بالملل أيضاً. وهناك علاقة عكسية بين الملل والتعلم، وقد يؤخذ في المجال التعليمي كدلالة على عدم اهتمام الطالب بالدرجة الكافية بموضوع التعلم، أو على الجانب الآخر يمكن اعتباره دليلاً على المبالغة في درجة التحدي التي لديه. وبحسب الخبراء، فالنشاط الذي يسهل على الطالب توقعه قد يثير فيه الشعور بالملل.
وتوصلت دراسة في العام 1989 إلى أن ردة فعل الفرد للملل ربما تتأثر بدرجة انتباهه، لأن درجة التشتت التي يصاب بها نتيجة مؤثر صوتي مثلاً من بيئته القريبة ترتبط بالشعور بالملل.
وقالت دراسات إن الملل سبب لما يعرف بالمقامرة المرضية، فتوصلت إحدى هذه الدراسات إلى صحة فرضية أن المصابين بالمقامرة المرضية يبحثون عن حافز لتجنب الشعور بالملل والاكتئاب.
ويلم علماء النفس بقدر هائل من المعرفة عن الملل، ووقع تصنيفهم السابق إلى أربعة أنواع هي تحديداً "ملل اللامبالاة" حيث يشعر فيه المصاب به بالاسترخاء وتسيطر عليه روح الانسحاب والانهزامية، و"ملل المعايرة" حيث يشعر المصاب بعدم الثقة وقابلية التغيير، والتشتت، و"ملل البحث" حيث يشعر المصاب بالقلق وعدم الراحة والبحث المستمر عن التغيير، والتشتت، و"الملل التفاعلي" حيث يشعر المصاب بردة الفعل العنيفة وبان لديه دوافع لترك موقف ما رهناً لبدائل معينة.
وفي دراسة أجراها فريق من العلماء بقيادة الدكتور توماس جويتز من جامعة Konstanz الألمانية، أوضح كيف يتعرض الإنسان للملل خلال مجريات حياته اليومية، وأُعتبرت أول دراسة من نوعها تبحث في أنواع الملل المختلفة، وبنيت على بحث تمهيدي أجراه جويتز وزميلته في الجامعة آن فرينزل في العام ،2006 قارنوا فيها بين أربعة أنواع مختلفة من الملل استناداً إلى مستويات الإثارة الناجمة عن كل نوع (بدءاً بالشعور بالسكينة وانتهاءً بالشعور بالعصبية). وبحثاً في كيفية توقع الملل الإيجابي والملل السلبي.
نشر الباحثون نتائج الدراسة في صحيفة " ديتيرمينيشن آند إيموشن"، معلنين عن اكتشافهم صنفاً خامساً، ذكروا أنه سوف يسهم في مساعدة الأشخاص الذين يبذلون جهوداً مضنية للتركيز في إحدى قدراتهم، وأطلقوا على هذا الصنف الخامس اسم "ملل الزهد" أو "فقدان الشعور بالاهتمام".
ووصف العلماء صاحب النوع الأول الذي يعاني "ملل اللامبالاة" بأنه هادئ ومنطوٍ على نفسه، أما صاحب الصنف الثاني فيعاني عدم الثقة ويصعب عليه تغيير من سلوكه، أما صاحب الصنف الثالث فيشعر بالقلق ويستمر في البحث عن التغيير، ووصفوا صاحب الصنف الرابع بأنه في حالة تحفز دائمة بحثاً عن مزيد من الخيارات، أما صاحب الصنف الجديد فهو بائس قليل الحيلة، ويمر بحالة تشبه العجز المكتسب أو الاكتئاب، يصحبها مستويات منخفضة من الإثارة ومستويات عالية من النفور.
وأكدت الدراسة أن كل الناس قد يصابون بنوع واحد منفرد من هذه الأنواع الخمسة، كما اعتبر الباحثون أن تحديد أي نوع من الخمسة سوف يواجهه الشخص يمكن أن يكون بمثابة مفاتيح يستعان بها لتقديم المساعدة المناسبة للمصابين بأمراض فقدان الاهتمام، وبمن يعانون عللاً نفسية تعيق تقدم حياتهم بشكل طبيعي.
أجرى الدراسة فريق ضم علماء من جامعتي Ulm، وKonstanz الألمانيتين في ميونيخ، وجامعة City في نيويورك، وجامعة McGill في مونتريال في كندا، توصل الفريق إلى الصنف الجديد من الملل أثناء بحثه في الآثار التي تتركها الأصناف الأربعة الأخرى على الإنسان.
وعكف قائد الدراسة الدكتور جويتز على دراسة أثر الملل في الحياة اليومية لما يزيد على سبع سنوات، ولاحظ أشكالاً متنوعة من الملل يصحبها ردود أفعال بدنية ونفسية متباينة، تبدأ بالتململ ثم الشعور بالعصبية إلى الشعور بالسكينة المصحوب بالتشتت وعدم الانتباه.
وتولى الطاقم المساعد للدكتور جويتز 143 طالباً وشاباً عرضوا عليهم استبياناً طوال يوم كامل حول تدريس أنشطتهم ووقائع حياتهم اليومية. وبحسب العلماء، فإن أغلب المشاركين لم يمروا بنوعين من الملل، بل وقعوا تحت تأثير نوع واحد حدده نوع شخصية كل فرد منهم، أي أن هناك فروقاً فردية في نوع القلق الذي يصاب به الإنسان.
واكتشف الفريق إصابة مشاركين بالنوع الجديد من الملل "ملل الزهد" لدى 36 في المئة من كل عينة خضعت للدراسة، وبدا أنه الأكثر شيوعاً من بين أنواع الملل الأخرى.
وحاول الباحثون معرفة أي نوع من الملل يصاب به كل مشارك في محاولة للتوصل إلى طرق مناسبة لتقديم المساعدة لمن يعانون الخلل الإدراكي، ونقص القدرة على اكتساب الخبرة بالتعلم، والفشل في الاستمرار في مزاولة نشاط حياتي عادي.
ويرى العلماء أن تحديد نوع الملل له أهمية كبيرة لأن ذلك يمكن أن يساعد في علاج الشخص الذي يعاني صعوبات التعلم في مدرسته أو جامعته، أو إذا كان موظفاً لا يقوى على أداء واجباته العادية، أو إذا كان شخصاً عادياً يجد صعوبات في التواصل والفاعل مع المحيطين.
وأظهرت الدراسة أن الإصابة بأي من أنواع الملل الخمسة لا تعتمد فقط على شدة درجة الشعور به ولكنها تعتمد في الأساس على الموقف الحياتي الحقيقي الذي يتعرض فيه الإنسان للملل، وقال فريق البحث إن الناس لا يصابون بأنواع الملل الخمسة بطريقة عشوائية، لكنهم يصابون بنوع واحد فقط في وقت معين.
وذكرت الدراسة أن الإصابة بنوع ما من الملل يمكن أن تعزى، إلى حد ما، إلى ما لدى الشخص من ميول مزاجية محددة.
وسلطت الدراسة الضوء على مناقشات أثيرت حول ماهية آثار الملل وعما إذا كانت هذه تؤثر بالإيجاب أو بالسلب في قدرات المصاب على التعلم والإنجاز، وهنا يقول جويتز إنه يمكن معرفة ذلك إذا تعرف الباحث إلى نوع الملل لدى الشخص.
الملل يدفع الأشخاص للتصرف بسادية
أكدت دراسة دنماركية جديدة أن الأشخاص الذين يشعرون بالملل قد يتصرفون بسادية للتخفيف من مشاعر الضجر، وبحسب صحيفة «ديلي ميل» البريطانية، فقد وجد الباحثون في جامعة آرهوس أن التصرف بشكل سادي قد يشمل مشاهدة صور مصابين أو مرضى أو مقاطع فيديو تظهر كوارث أو حوادث عنيفة، أو حتى التفكير في إيذاء الآخرين.
وراجع الفريق 9 دراسات شملت أكثر من 4000 شخص في المجموع وخلصوا إلى أن الميول السادية تكون أكثر وضوحاً لدى الأشخاص الذين يبلغون عن شعورهم بالملل الشديد في حياتهم اليومية، وشملت الدراسات التي فحصها الباحثون أنواعا مختلفة من الناس في بيئات مختلفة، فإحدى الدراسات تضمنت مواطنين عاديين من الولايات المتحدة وألمانيا والدنمارك، تم استطلاع آرائهم حول كيفية تصرفهم عند شعورهم بالملل في حياتهم اليومية، في حين تضمنت دراسة أخرى أفرادا بالجيش الأميركي، ثبت أن معظمهم يتصرفون بسادية تجاه بعضهم البعض عندما يشعرون بالملل أثناء خدمتهم، وفحصت دراسة أخرى ما إذا كان الآباء يتصرفون بسادية تجاه أطفالهم أو يسخرون من أوجاعهم أو يستمتعون بإيذائهم.
بالإضافة إلى ذلك، فقد قامت بعض الدراسات التي تم فحصها بإجراء تجارب فعلية على الأشخاص بدلا من الاعتماد على المشاعر والتصرفات المبلغ عنها ذاتياً، وفي إحدى هذه التجارب، لم يُسمح للمشاركين بامتلاك هاتف ذكي أو أي شيء من شأنه تشتيت انتباههم أثناء جلوسهم في حجرة صغيرة يشاهدون فيديو مدته 20 دقيقة لشلال مياه.
ومع ذلك، تم إعطاء المشاركين ثلاثة أكواب بداخل كل منها عدد من الديدان ومطحنة قهوة يدوية، وسمح لهم بوضع الديدان في المطحنة إذا أرادوا، ومن بين 129 مشاركاً، حاول 13 شخصا تمزيق الدودة وربطوا هذا التصرف بالشعور بالمتعة.
وكتب الفريق في الدراسة الجديدة: «ما توصلنا إليه بعد مراجعة كل هذه الدراسات هو أن الملل يزيد من السلوك السادي في البيئات المختلفة، حتى بين الأفراد ذوي النزعة السادية المنخفضة».
وأضاف الباحثون «بشكل عام، تساهم هذه الدراسة الجديدة في فهم السادية بشكل أفضل وتسلط الضوء على التأثير المدمر للملل»، ونُشرت الدراسة في مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي.
النشاط والابتكار: مهربان من فخ الملل
أحمد حسون، موظف مبيعات، فكان يعتقد أن الشعور بالملل مرتبط بالفراغ فقط، ويقول: كنت أستغرب ممن يشكون من الملل وأحسدهم ،لكوني لا أجد وقتاً للتفكير بالملل بسبب مشاغلي والأنشطة الكثيرة التي أملأ وقتي بها، وتعالج المزاج السيئ، لكني اكتشفت أن الملل شعور أخطر مما نعتقد، فما أن يجد ثغرة يدخل منها حتى يتسلط على مشاعرنا ورغباتنا، فنشعر فجأة بأن العمل أصبح مملاً، ونفقد الرغبة بالقيام بالأنشطة التي كنّا نستمتع بها في الماضي، وهذا أخطر ما في الأمر، ولعل الحل في معظم الأحيان يكون مرتبطاً بالمحيطين، فالإنسان العالق بشباك الملل يكون في طريقه نحو الاكتئاب، ولعل تغييراً أو تجديداً بسيطاً في الحياة يخرجه من هذه الدائرة المغلقة.
وعن الخوف من الشعور بالملل وتأثيره في حياتنا ترى مريم جمعة، ربة منزل، أن الكثير من السلوكيات التي يقوم بها الناس تكون مدفوعة بالخوف من الوقوع في فخ الملل والفراغ، وتقول: البعض يحرص على أن يكون محاطاً بالكثير من الأصدقاء، لكي لا يجد نفسه وحيداً، والبعض الآخر يخلق لنفسه العديد من الأهداف، وآخرون يغرقون أنفسهم بالألعاب أو العمل هرباً من الملل.
عن الفرق بين الناس الذي يحولون شعورهم بالملل إلى نجاحات وابتكارات، وأولئك الذين يغرقون بالملل ويسمحون له بالتحول إلى كآبة تغرق حياتهم، يرى ياسر محمد، موظف صرافة، أنه ما من قاعدة، فالشخص نفسه قد يكون مبدعاً بدافع الملل، وقد يسمح لهذا الملل بالسيطرة عليه في ظروف أخرى، ويقول: الظروف تحكم غالباً، فالشخص الذي وجد نفسه عالقاً في روتين مرهق لفترة طويلة، من الطبيعي أن ينتقل إلى الكآبة، فالملل هنا عبارة عن إشارة طبيعية لهذا الشخص، ليغير طريقته بالتعاطي مع حياته وجسده.
ويعتبر الحرمان من الأسرار الرائعة في مواجهة مشاعر الملل، حسب وصال حربلية، معلمة لغة إنجليزية، وتقول: كنت طفلة ملولة منذ صغري، ربما كنت هكذا لكوني اعتدت أن أجذب انتباه الآخرين بهذه الطريقة، لكني اكتشفت أني عالقة بالفعل بمصيدة الملل السريع، وعن طريق الصدفة وجدت طريقة رائعة للتخلص من الشعور بالملل، فبدأت أتحكم بنفسي وأستمتع بقدرتي على السيطرة عليها من خلال الامتناع عن القيام بالأشياء التي أدمنها مثلاً، كتصفح مواقع التواصل كل مدة قليلة، أو تناول الوجبات السريعة متى شئت، أما الجزء الثاني من الحل فيتعلق بوضع برنامج ومجموعة من الأهداف اليومية الصغيرة التي تمنحنا سعادة حقيقية.
من جهته يوضح د. جاسم المرزوقي، استشاري العلاج النفسي، أن الملل يظهر كنتيجة للحالة النفسية والمزاجية التي يكون عليها الإنسان، سواء في العمل الذي يقوم به، أو نتيجة العلاقات التي تربطه بالآخرين، وفي الغالب هناك عامل مشترك لدى الكثير ممن يشعرون بالملل وهو فقدان المتعة بما يقومون به في الحياة، أو عدم وجود أهداف حقيقية لهم أو وجود أهداف يتراءى لهم أنهم يتبنونها، وبعد المضي فيها يفقدون المتعة، لأنها ليست أهدافاً حقيقية.
ويقول: الكثير من الناس يواجهون هذه المشكلة كنتيجة طبيعية للوضع النفسي، فالاكتئاب هو السبب الرئيسي أحياناً الذي يؤدي إلى فقدان المتعة والرغبة بعمل الأشياء، وأحياناً طباع الإنسان وأنماط لشخصية تلعب دوراً كبيراً جداً في مدى قدرته على الاستمرار في مهمة ما، أو في عمل ما، وهنا نجد أن هؤلاء الأشخاص لا يتمتعون بالدافعية نحو الإنجاز، فلديهم الشعور بالرغبة بالعمل في شيء ما، ولكن بعد فترة وتبعاً لطبيعة شخصياتهم يبدؤون بالتململ ويسعون إلى تغيير العمل الذي هم فيه، والعامل المشترك لدى من يشعرون بالملل هو فقدان الرؤيا في الشيء الذي يرغبون بالقيام به أو الوصول إليه.
الملل جميل أحياناً
ألا تشعرين بالملل من العمل في الكتابة؟ سألتني صديقة تعرفني جيداً منذ ثلاثين عاماً، وتعرف أن الكتابة وعوالمها هي مجال عملي ومحتوى هواياتي، في كل أنواعها وصورها تقريباً. وتعرف أنني أعمل في الصحافة منذ كنت طالبةً على مقاعد الدراسة الجامعية، وبالتأكيد تعرف تماماً مدى شغفي الكبير بهذا العمل الذي لم أزاول غيره، وهذه الهواية التي لا تعادل أهميتها لدي هواية أخرى، على كثرة هواياتي وتنوعها وتقلّباتي الزمنية بينها، مرحلة بعد مرحلة، فكل الهوايات متحوّلة، لكن الكتابة ثابتة.
كان سؤالها الذي بدا لي معتاداً، في ختام حديثٍ طويل بيني وبينها عمّا فعلته بنا جائحة كورونا، وأثرها في أعمالنا وحياتنا كلها. كنا قد اتفقنا على أن الأثر الذي تركته هذه الجائحة كبير جداً في الأعمال المكتبية، وكما يتعلق بها، ومنها الصحافة الثقافية التي كانت دائماً نصيبي الصحافي. ومنها أيضاً وظيفتها في التدريس الأكاديمي في إحدى الجامعات.
لا. لا أشعر بالملل، لأنني لا أحب عملي وحسب، بل أعتبره شغفي الأكبر في هذه الحياة، وأنت، يا صديقتي ورفيقة رحلتي، تعرفين ذلك جيداً.
لا أدري إن كانت صديقتي قد اقتنعت بإجابتي السريعة والتقليدية بالنسبة إليها أو لا، خصوصاً أنها سمعتها مني كثيراً وفي مفاصل متعدّدة من رحلتنا المشتركة. وفي كل مرّة تسمعها مني كانت تعلّق بما يشبه الموافقة كزاد للاستمرار في رحلتنا المشتركة، لكنها هذه المرّة بدت غير مقتنعة بها كثيراً، ربما لأن الإجابة أتت في ختام حديثنا الطويل عن المصاعب والمشكلات التي مرّت بنا أخيراً.
غيّرت صديقتي مجرى الحديث بعد ذلك بسرعة، من دون أن تسترسل كما كانت تفعل في المرّات السابقة في الحديث عن بداياتها وبداياتي في أعمالنا وهواياتنا. من الواضح أنها كانت تعيش مللها الخاص أيضاً، وإن كانت لا تريد الاعتراف به أمامي، ما دمت متجلدة وثابتة على الإجابة القديمة. لكن سؤال الملل بقي، هذه المرّة تحديداً، عالقاً في ذهني، حتى بعد انتهاء الجلسة وانصراف كلّ منا إلى شأنها الخاص!
عدت إلى إجابتي عن سؤالها لاحقاً، لا لأتأكد منها وحسب، بل أيضاً لأنني شعرت فعلاً بتقليديتها الخارجة عن سياق ما نحن فيه من تغيرات كبرى ألمّت بنا جميعاً تحت ظلال الجائحة الكونية، وتغيّرات أخرى ألمّت بي شخصياً، تحت وطأة العمر المنصرم والخسارات البشرية وغير البشرية التي توالت عليّ في السنوات الأخيرة.
في إطار مراجعة الإجابة عن سؤال الملل من العمل ومن الكتابة وما بينهما من ممارسات تشبههما وتتعلق بهما، اكتشفت أنني كنت دائماً أحتال على شعوري بذلك الملل انتصاراً لعملي ولهوايتي، ربما لأنني أنظر إلى الملل تلك النظرة السلبية الشائعة، من دون أن أفسح لنفسي، ولو فجوة، لاكتشاف إمكانات أخرى له قد تكون إيجابية.
الملل، على سبيل المثال، هو دافعنا دائماً إلى التجدّد في الحياة والبحث عن أساليب وطرائق مختلفة لعيشها وفق ما نحبّ وما نرضى، وهو نفسه وقودنا للاستمرار في الدهشة ومحاولة الاكتشاف. ولو تعمّقنا في معرفة أصل الاختراعات والاكتشافات الفردية، لوجدنا أن للملل دوراً كبيراً في الوصول إليها.
وفي البحث عن معنى الملل، نكتشف أن لا معنى محدّداً يمكن أن يؤدّي الغرض، وإن كان الشعور المتولد منه يكاد يكون مشتركاً لدينا جميعنا، نحن البشر. إنه الحالة التي تشعرنا بأننا على وشك الموت إن استسلمنا له، وأن حياة أخرى جديدة بانتظارنا إن عملنا على ركوب أول رحلةٍ متاحةٍ لمغادرته. الملل جميل إذن بهذا المعنى، وإن لم نعترف بذلك دائماً!