لا يزال الصراع محتدما بين الهامش والمركز في العراق، فمنذ رُفِعَت القيود الصارمة في مجالات الحياة العراقية كافة، أخذ الهامش يصحو من سباته الطويل، وهذه الصحوة حدثت بطريقة صادمة وليست متدرجة، واحتدم الصراع أكثر واتخذ شكل القوة واستخدام العنف في بلوغ المركز وإزاحة من فيه.
وبدأ تضخيم المنجز الفردي يتصدر أهداف الشخصية العراقية في الأشهر الأولى بعد نيسان 2003، والسبب يُعزى إلى حالات التغييب القسري والتهميش المتعمّد للفرد على مدى عقود وربما قرون متتابعة، وتحجيم دوره في تشكيل الخريطة السياسية للبلد، لذلك ما أنْ رُفعِت القضبان وأزيحت حالات التكبيل المتواصل، حتى أفصحت الشخصية العراقية عن رغباتها في التصدّر والظهور.
هذه النزعة في الانتقال من الهامش إلى المركز، كانت شيئا متوقّعا، لكن العنف الذي رافق هذه الانتقال وتبادل الأدوار لم يكن متوقّعا، لأنه جاء مقرونا بإلغاء الدور الجماعي أو محاربته في تشكيل الاحداث والنتائج في هذا المجال أو ذاك.
وهكذا قفز الهامش إلى المركز في الحياة العراقية عموما، وهو أمر محمود لو أنه حدث بصورة متدرجة وطبيعية، فالكل يطمح إلى الرقي والتطور، ولكن عندما تتم عملية الارتقاء من الهامش إلى المركز بصورة دراماتيكية متعجلة، كما حدث معنا في العراق، فإن النتائج السلبية المرافقة ستكون كبيرة.
من هذه النتائج على سبيل المثال، شيوع ظاهرة المغالاة الفردية على حساب روح الجماعة، والتي طبعت معظم الأنشطة العملية وحتى الفكرية منها، بل يشير بعض المختصين إلى ما هو أخطر من ذلك، عندما يؤكد تضاؤل الولاء الوطني مقابل بروز الولاءات الفرعية، وهو نتاج طبيعي وواضح للروح الفردية التي أخذت تطغى على كل شيء.
النزوع الفردي نحو الصدارة
وقد يكون الشيء الأخطر في هذا المضمار، هو بزوغ روح المؤامرة بين الفرد والجماعة في إدارة معظم المجالات التي تتطلب عملا ذا طابع تشاركي، سواء في إدارة المؤسسات الحكومية ذات التخصص السياسي، أو في الاقتصاد أو التعليم أو حتى الأنشطة الإعلامية والثقافية وسواها.
حين يعمل الفرد ضمن مجموعة تقود المؤسسة الفلانية، فإنه يريد أن يحتل الصدارة في كل شيء، ويطمح بل يطمع ويعمل على لفت الانتباه إلى شخصه ومنجزاته الفردية، أما الآخرون فليذهبوا إلى الجحيم!، هذه الروح الفردية المغالية تساورها هواجس المؤامرة على الدوام، وتنظر إلى الجميع ليس كشركاء بل أعداء يحاولون سرقة الأضواء منه، أو التقليل من ضخامة شخصيته.
هذه الحالة المرضية ليست جديدة، لكنها تفاقمت أكثر وتحولت إلى مرض نفسي أخذ يظهر في الشخصية العراقية كإفراز متوقَّع للانفتاح السريع في مجالات الحياة العراقية كافة، لذلك بدأت هواجس الروح المتخوفة من الآخر تتصاعد وتنمو لدى الفرد، فأصبح العمل الجماعي يعيق طموحاته النفسية التي تهدف إلى تلميع ذاته، والنظر إليه على انه الأهم دائما.
هذه نتيجة طبيعية لما عاناه العرقيون من التهميش والاستبداد، حيث كانت الشخصية العراقية تقبع تحت ضغوط قاهرة، مع غياب التعبير عن الرأي السياسي، أو حتى الفكري، فكان الناس يخشون الخوض في هذه الأمور بسبب القوانين الجائرة التي كانت تترصد الرأي أو الفكر المعارض.
ونتيجة لذلك تشكلت شخصية خامدة خائفة، لا يمكنها التعبير عمّا يدور في رأسها، فحتى الأحلام كانت تخيف الحالمين بها، وكان الشخص يُحاسب على حلمه المعارِض إذا تم كشفه، وهكذا كانت الشخصية العراقية نتاج تهميش وإقصاء وملاحقة، ومحاولات متواصلة لإفراغها من المشاركة الفاعلة، خصوصا في السياسة والسلطة وتوزيع الثروات والمناصب.
عطش خطير لتمجيد الذات
هذا ما عانت منه الشخصية العراقية طويلا، لذلك نلاحظ أن الفرد العراقي في المرحلة الراهنة غالبا ما يفضل نفسه على الآخرين، وغالبا ما يسعى إلى تصدّر المشهد أيا كان نوعه أو مناسبته، وقد وصل الأمر ببعضهم إلى حد الصراع والتنازع على احتلال المقاعد الأولى لهذا المحفل السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، أو ذاك!!
وهذه ظاهرة نفسية مرضية تؤكد رغبة الشخصية العراقية بتضخيم الذات على حساب الآخر أو الجماعة، ولا علاقة لهذا الأمر بالمكانة الاجتماعية أو السياسية أو الدينية وسواها، فالمقامات محفوظة، وينبغي أن تكون كذلك دائما، لكن أن يتصارع الأفراد (النخب وسواهم) على حالة كهذه، فهذا دليل مؤكد على العطش الخطير لتمجيد الذات.
وما يؤكد هذه الظاهرة، موجات اللهاث المحموم والغريب وراء المكاسب بمختلف أشكالها، لاسيما تلك التي تتلبس الفرد وتعيش معه ليلا ونهارا، لاسيما المادية منها، حتى لو تحققت المكاسب على حساب الآخرين!، وهذه إشكالية نفسية مؤسفة قد تنعكس بخطورتها على الواقع المجتمعي كله.
لابد من القول أن هذه الظاهرة الفردية، لا تنسجم مع الدعوات الكثيرة للتحرر والانفتاح المدروس، والعمل في ظل شفافية ونزاهة ينبغي أن تشكل الملامح الأهم والأوضح للمرحلة العراقية الراهنة.
لذلك يجب التعاون الجمعي لمعالجة مثل هذه الظواهر التي تخلخل البناء المجتمعي، وتؤثر على البنية السياسية وأدائها، لذا لا يصح أن يستمر الحال كما هو عليه، فالبلد يحتاج إلى العمل الجماعي المتعاون أكثر من أية مرحلة ماضية، والوصول إلى هذا الهدف يتطلب تخليص الفرد من حالة التهميش.
كما يجب العمل على نشر روح التعاون والعمل الجماعي المثمر، وقد تبدو الحلول أو معالجة هذه الظاهرة غاية في الصعوبة، وهو أمر صحيح، كونه يتطلب سعيا جماعيا منظّما، يبدأ من قمة الهرم السياسي والثقافي والاجتماعي، لمكافحة ظاهرة الشعور بالتهميش، والسعي الفوضوي للانتقال نحو المركز.