"من فتح على نفسه باباً من المسألة فتح الله عليه باباً من الفقر".
أمير المؤمنين، عليه السلام
لأنها ظاهرة مثيرة للمشاعر الانسانية، تتجه الدعوات للحلول نحو مؤسسات الدولة، او المؤسسات الثقافية والاجتماعية لانتشال الفقير مما فيه، و سد احتياجاته حتى لا نشهد مظاهر الاستعطاء (التسول) المنتشر في بلادنا الاسلامية بشكل عام، وفي العراق خاصة، والتي تحولت الى أشبه بالمهنة ومصدر سهل وآمن لكسب المال الوفير يخوضها أطفال صغار وفتيات ونساء، في حين إن الفقر كحالة اجتماعية لها جذور ذاتية قبل ان تكون مشكلة اجتماعية، ولعل هذا يفسّر لنا عدم تراجع أعداد المتسولين –إن لم نقل ازدياد الارقام- في مدينة صغيرة مثل كربلاء المقدسة، رغم تميزها بكثرة مؤسساتها الخيرية بتغطيتها الواسعة لأعداد كبيرة من العوائل الفقيرة، الى جانب الدعم الحكومي رغم حجمه البسيط.
الفقر مطلب سياسي
كتب المفكرون في منذ حوالي ستين عاماً عن اسباب فشل عمليات التغيير الحقيقية في البلاد الاسلامية، رغم الاعمال الكبيرة والتضحيات العظيمة، وتوصلوا الى أن الفقراء كانوا –ومايزالون- يشكلون الواجهة الامامية في خط المواجهة الدامية، فتحدث الانقلابات والثورات والتحولات وتظهر أنظمة حكم جديدة بوجوه جديدة، ولكن ملامح الفقر والحرمان ما تزال عالقة على وجوه أولئك المشاركين في تلكم الثورات والتحولات، فهم على حالهم؛ يسكنون العشوائيات، ويمتهنون أبسط الاعمال وأكثرها مشقّة، تحيط بهم المستنقعات والنفايات، ويعلوهم الغبار على مدار السنة، والشكوى والألم لا يفارقان شفاههم.
وكانت الإشارة الدقيقة لأولئك المفكرين الافذاذ الى ضرورة ان ينتفض الفقير على فقره قبل ان ينتفض على الحاكم الجائر، وأن عليه ان يستشعر سوء حاله بينه وبين نفسه، قبل ان يستشعر المسائل الخارجية بينه وبين الآخرين، مثل؛ حرية الرأي والتعبير، والبحث عن مصادر القوة للدفاع عن النفس، فالتحول الداخلي هو الذي يبني القاعدة الرصينة لانطلاقة مضمونة النتائج نحو تغيير حقيقي وانتصار مؤزر على الواقع الخارجي مهما كانت عنجهيته وغطرسته ودمويته، والتجارب التاريخية كثيرة لسنا بوارد الخوض فيها.
أما المفارقة المحزنة اليوم فهي ليس في عدم تحقيق تلكم الآمال الجميلة والنظريات الدقيقة، وإنما في تقدم واقع الفقر السيئ الى مربع أسوء و أخطر بكثير، فالفقير ليس فقط لم ينهض لانقاذ نفسه، وإنما تحول –من حيث لا يشعر- الى سوط مسلط على رأسه هو من قبل جماعات مابرحت ترفع شعار التغيير نحو الاحسن، بل وتدّعي بكل قوة محاربة الفساد والمفسدين!
كيف يحصل هذا؟
اذا غيّر الفقير من حالته من العوز الى الغنى سيكون سيّد نفسه، وفي خطوة متقدمة سيتمكن من التعبير عن آرائه وتطلعاته دون الحاجة لمن يفكر بالنيابة عنه، بل وحتى يناقش الكبار فيما يقرروه من صغائر والامور وكبائرها، لاسيما المصيرية منها، فهو لن يكون محتاجاً بعد اليوم الى لقمة الخبز الجاهزة التي تأتيه من هنا وهناك لتسد رمقه وتلبي حاجات أسرته، يقول أمير المؤمنين: "الفقر يُخرس الفَطِن عن حجته، والمُقل غريب في بلدته"، وفي كتابه؛ استراتيجية انتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الامام علي، لآية الله السيد مرتضى الشيرازي، يجيب سماحته عن: "لماذا يخرس الفقر الفطن عن حجته؟ بان الفقير لا يملك وسائل الدفاع عن حجته وحمايتها، والترويج لها، وإقناع الآخرين بها، وهل يُسمح للفقر بامتلاك جرائد ومجلات واذاعات وفضائيات؟ وهل بمقدور الفقير ان يؤسس مدارس ومعاهد لتخريج علماء يحملون الفكر ويدافعون عنه بالحجة"؟ وعليه؛ كلما زادت نسبة الفقر وفّر الحكام الأمان من ناحية الوعي، وضمن القدر الاكبر من الطاعة العمياء.
إن الفقير ليس دائماً ذلك المتسوّل في الشوارع، وإلا لكان العدد لدينا هيّناً، إنما مظاهر الفقر تضرب باطنابها بشكل مقنّع كل أرجاء المجتمع، فالارتباط بالدولة بشكل أو بآخر هو نوعاً من انواع الفقر، كما أن الاوساط الثقافية والاعلامية اتفقت على أن نسبة عالية من الوظائف الحكومية تمثل "بطالة مقنعة" تملأ غرف الدوائر الحكومية بالموظفين والموظفات دون عمل واضح او انتاج شيء مفيد.
يكفي اهتزاز اسعار النفط او تقلبات في اسعار العملة الصعبة او قرارات ارتجالية، وربما بعضها عن قصد من "مسؤولي" الدولة يجعل الشريحة الواسعة المعتمدة على الراتب الشهري على صفيح ساخن يفقدون فيه صوابهم نهاراً، ويفقدون راحتهم ليلاً، إلا ان تأتيهم التطمينات من وسائل الاعلام بتوفر السيولة وصرف الرواتب ليتلوا الجميع: الحمد لله رب العالمين!
هل من فقر مدقع أكثر من هذا؟!
هذا المآل السيئ والمأساوي لم يصنعه سوى الفقير نفسه، فلو لم تكن الرغبة في استحصال الراتب الشهري المحدد، والهروب من تحمّل المسؤولية الاخلاقية والانسانية إزاء المجتمع والامة في إجهاد النفس والبدن بالعمل والانتاج والابداع خدمة للذات وللآخرين، لما تحول الى وسيلة جاهزة لتحقيق مصالح سياسية، بل وحتى شخصية كما نسمع ونرى في وسائل الاعلام.
ثقافة الأمير
عندما نقرأ الحديث المروي عن أمير المؤمنين: "استغن بالله عمّن شئت تكن نظيره واحتج الى من شئت تكن أسيره، و أفضل على من شئت تكن أميره"، لا يعني أن الإمام، سلام الله عليه، يقسم المجتمع طبقات في العطاء، وإلا فان الغني والثري لا يحتاج لمن يجعله أميراً على الناس، فهو معبأ مسبقاً لما فيه، ولا حتى الفقير الذي يمد يد المساعدة، فهنا يكون الامر تحصيل حاصل ليس إلا، إنما المعادلة تتجه الى العطاء كثقافة عامة تنشر الغِنى والعفّة والكفاف بين جميع افراد المجتمع، ففي حالات عديدة نلاحظ مجتمعات تفخر بوجود افراد ليسوا بأثرياء ولكنهم أسهموا في بناء دور للايتام، او بنوا مساجد، ومدارس، وشاركوا في أعمال البر والاحسان، وهذا أصبح أمراً واقعياً وعملياً عندما تجاوز هذا المشارك المتفاعل حالته المتواضعة مادياً ولم ينكئ على الجرح، بل العكس؛ عالج ما فيه سريعاً بالعفّة و الرضى والقناعة، لينطلق فيما بعد للإسهام في علاج الآخرين فيستحق لقب الأمير، ذا يقول سماحة آية الله الشيرازي: "لو سادت ثقافة أن تكون محسناً في المجتمع، لتحول أكثر الفقراء الى أغنياء محسنين بدل أن يكونوا فقراء أسراء".
إن مجرد التفكير بمقبولية حالة الفقر واستمرائها لدى البعض بإيحاءات نفسية يبررها البعض بفساد النظام السياسي، وأن الفاسدين في دوائر الدولة هم المسؤولون عن ازدياد نسبة الفقر وانتشار المستولين، هي بحد ذاتها تصنع سوطاً غليظاً يذيق اصحابه الذلّ والهوان والعبودية، مع استمرار المشاكل والازمات بشكل متلاحق، أما الحديث عن معالجة ظاهرة الفقر، او مكافحة التسوّل لن تكون –في بعض الاحيان- سوى للاستهلاك الاعلامي، او التوظيف السياسي لهذا او ذاك.