الواضح إن الأفراد وبغض النظر عن التبريرات التي طالما أطلقها الفقه انتقلوا من حياة العزلة أو الانفراد إلى العيش في مجتمعات ينقسم فيها المجتمع إلى فئتين حاكمة ومحكومة، وان الفئة الثانية لتكون في ممارستها للسلطة في نطاق المشروعية عليها أن تتكأ على رضا الأفراد بشكل دوري.
بمعنى ان الأفراد بمنتهى الحرية انتقلوا من حياة الفوضى أو عدم التنظيم إلى حياة يسودها النظام والقانون وهنالك سلطة تسهر على تطبيق القانون، والواقع انه لا يمكن الحديث عن حريات مطلقة أو غير منظمة لكونها ستشعل فتيل فتنة لا يمكن تصور أبعادها الحقيقية، فالحرية المطلقة مفسدة مطلقة وهي كسائر الأشياء في هذا الوجود تحتاج إلى تنظيم يصونها من العدوان ويمنع التعسف باستخدامها إلى الحد الذي يلحق الأذى والضرر بالآخرين، كما إن التنظيم المزمع الحديث عنه من شانه إن يصون التعايش بين الحريات ذاتها تفاديا لتعارض أو التناقض أو التصارع الذي يحل بها لو كانت مطلقة.
كحرية استعمال الشارع العام فهي بالواقع تتنازعها العديد من الحريات البعض يريد إن يسير على الشارع والبعض يريد إن يجعل إطلالة المنزل باتجاه الشارع، والبعض يريد إن يستعمل الشارع لنقل الأشياء إلى ملكه المطل على ذلك الطريق، وآخرون يريدون إن يتخذوا من الطريق محلاً للتظاهر أو حرية الاجتماع السلمي، ولعل البعض يتخذ منه ميداناً لممارسة الأنشطة الترفيهية أو التجارية أو الرياضية، فهل يمكن التوفيق بين كل هذه الرغبات إن كانت جميعاً مطلقة بلا تنظيم؟ الجواب بالتأكيد لا، ويلزم التنسيق عالي المستوى لكي لا تتحول الحرية إلى وبال على الأشخاص أنفسهم.
فمطلب تحقيق النظام العام وصيانة الأمن العام ومنع ما يهدد الصحة العامة أو البيئة أو حالة السكون والهدوء جميعاً مطلوبة وبحاجة إلى من يسهر على تحقيقيها وبالواقع هي لا تتحقق إلا بتدخل من السلطة العامة، لذا كان تدخل المشرع والإدارة والقضاء أمراً لا مفر منه لصيانة النظام والآداب ولتكون الحياة ضمن قالب من التنظيم العام الذي يتعامل مع المراكز القانونية للأفراد بنحو من المساواة وتكافئ الفرص في الانتفاع بالأموال في حدود الحرية المنوه عنها أعلاه، ولما تقدم أسس يتكأ عليها يمكن إن نبينها وفق الآتي:
أولاً: الأساس الاجتماعي:
حيث يعيش الفرد داخل مجتمع إنساني معين يؤثر ويتأثر به فلا يسعه إن يعيش بمعزل عن الأفراد الآخرين، لذا سنكون إزاء نوعين من المصالح الأولى مصالح الفرد الذاتية التي قد تتعارض مع مصالح الآخرين، ومصلحة المجموع التي يشترك في جميع الأفراد بلا استثناء بوصفها مصالح عليا وسامية، لذا من المحتمل ان يكون هنالك تعارض أو تناقض بين المصلحتين طالما الفرد كائن اجتماعي يعيش ضمن الجماعة ويمارس جل أنشطته بالمشاركة مع الآخرين، لذا سيتحتم القول بضرورة تدخل المشرع لتنظيم الحريات العامة والخاصة ولمنع حالة التعارض أو التناقض المحتملة وحين يحصل ما تقدم فلابد من التضحية بحدود معينة من الحرية نسميها في الوقت الراهن بالتنظيم الذي يصيب الحرية فيمنع تحولها إلى حالة إساءة للجماعة أو إيثار للمصلحة الفردية على حساب الجماعية منها.
ثانياً: الأساس السياسي:
فهنالك أيضاً أساس ينطلق من قاعدة إن الأصل الحرية والاستثناء هو التقييد أو التنظيم بيد إن المقولة السابقة تجد أصلها في الواقع السياسي إذ إن الدولة تتشكل من مجموع إفراد المجتمع، فهؤلاء هم يمثلون الإرادة العامة التي تملك السلطات جميعاً، والى ذلك يتبادر السؤال التالي هل من يملك سلطة التنظيم؟ الجواب البديهي إن الإرادة العامة هي التي تملك ذلك بمعنى ان الذي يشرع القوانين هم مجموع الأفراد منظور إليهم بوصفهم شخص معنوي واحد قد نسميه المجتمع أو الشعب أو الأمة أو الشعب السياسي على اختلاف ما تقدم، لن نخرج عن المقتضى ان قلنا ان الإرادة العامة هي صاحبة الحق بالتنظيم القانوني للحقوق والحريات جميعاً ولذا لن يكون هنالك أدنى شك بشرعية التنظيم إن كان نابعاً عن إرادة سليمة وصحيحة للأمة أو ممن يعبر عن الإرادة العامة في الأنظمة الديمقراطية النيابية أو غير المباشرة التي تمنح المجالس المنتخبة الولاية لتنظيم شؤون الحياة العامة.
ولما تقدم سيظهر القانون بمظهر المعبر عن المصلحة المشتركة للجماعة الضامن لتحقيق التعايش السلمي لأفراد الجماعة، كما وتبرز إلى السطح أهمية المساهمة الشعبية في عملية صنع القرار العام بسن القوانين ورسم الاستراتيجيات والإسهام في التخطيط العام فالشعب مصدر السلطات وشرعيتها كما يعبر عن ذلك الدستور العراقي للعام 2005 في المادة الخامسة منه حين يوضح إن "السيادة للقانون والشعب مصدر السلطات وشرعيتها يمارسها بالاقتراع السري العام المباشر وعبر مؤسساته الدستورية" فما يصدر عن البرلمان من تشريعات وقرارات تعد معبرة عن الإرادة العامة وحين يتصدى البرلمان لإحدى الحريات بالتنظيم يعد ذلك قواعد عامة مجردة ملزمة للجميع وحينها يتم التساؤل عن التعارض مع الحرية الفردية أو التناغم معها؟ ففي معرض الإجابة نقول إن البرلمان هو المؤتمن على الإرادة العامة وعليه الإقدام لتنظيم الحريات الفردية والعامة بما يمنع من تعدي السلطات الأخرى لا سيما التنفيذية عليها.
ثالثاً: الأساس القانوني:
فحين يتناول الدستور في صلبه النص على الحريات العامة والخاصة فهدف السلطة التأسيسية رفع القيمة القانونية لها إلى مصاف النصوص الدستورية التي يصعب أو على الأقل لا يستساغ تعديلها من قبل السلطات المشتقة بل لابد من الرجوع فيها إلى الشعب لأخذ رأيه، ولما كان الدستور قواعد عامة تأبى التنفيذ المباشر من السلطات العامة التنفيذية تحتم إحالة الأمر إلى البرلمان ليقوم بعملية التنظيم على أكمل وجه بشرط إن يسير البرلمان وفق الأسس التي رسمها الدستور وتحت رقابة الرأي العام لتجد الحريات العامة الحماية في كنف المشرع وما يصدر عنه من قوانين.
فالأصل إن تنظيم الحريات مجال محجوز للبرلمان ولا يسوغ للحكومة التدخل بالتنظيم إلا بتفويض من المشرع وتحت رقابته ولذا حرص الدستور العراقي للعام 2005 على النص في موارد كثيرة على ضرورة صدور قانون لتنظيم إحدى الحريات منها على سبيل المثال ما ورد بالمادة (39) التي تنص على أنه "حرية تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية أو الانضمام إليها مكفولة وينظم ذلك بقانون" ولما تقدم هنالك العديد من الضوابط الواجب مراعاتها قبل صدور أي تشريع ينظم الحريات ومن أخصها إن:
أ- الحرية هي الأصل والتقييد استثناء.
ب- يحظر الاعتداء على الحقوق والحريات من أي طرف إلا بوجود المسوغ القانوني والمنطقي، على إن يكون بالقدر اللازم فحسب.
ت- ضرورة التزام المشرع حال مناقشة وإصدار القواعد التنظيمية حدود النص الدستوري الكافل للحرية وان يتم التنظيم داخل هذا النطاق فان تولى الدستور بيان حدود معينة للحرية امتنع على المشرع تجاوز الحدود بما من شأنه أن يزيد من أعباء الأفراد، فعلى سبيل المثال تنص المادة (17/ ثانياً) من الدستور العراقي "حرمة المساكن مصونة ولا دخولها أو تفتيشها أو التعرض لها إلا بقرار قضائي ووفقاً للقانون" بمعنى ان المشرع الدستوري لم يكتف بتدخل المشرع للتنظيم بل اشترط تدخل القضاء قبل التعرض للحق في المسكن.
ث- حينما يمنح المشرع الدستوري البرلمان ولاية تنظيم حرية معينة يفترض ان يتصدى للتنظيم بنفسه ولا يكل الأمر بمقتضى القانون إلى السلطة التنفيذية إلا بأضيق الحدود وذلك خشية التعسف باستخدامها للسلطة والتنكيل بالخصوم السياسيين وغيرهم من الأقليات، لذا يحظر على البرلمان التنازل التام عن اختصاصه التشريعي إلى الحكومة بل لابد من تدخله مرتين الأولى حين يلزم بإصدار قانون للتنظيم والثانية حينما يراقب تنفيذ الحكومة للقانون لمنع التفسيرات أو التطبيقات التي لا تتوافق مع المصلحة العامة، وتطبيقا لما تقدم نشير إلى ان الدستور العراقي للعام 2005 أشار في المادة (46) إلى أنه "لا يكون تقييد ممارسة أي من الحقوق أو الحريات الواردة في هذا الدستور أو تحديدها إلا بقانون أو بناءً عليه على ان لا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق أو الحرية".
ج- إن بعض الحريات تأبى إن تنظم بقانون لكونها لا تحتاج أكثر من إبلاغ أو إخطار السلطات المختصة بممارستها و إي ما شيء يزيد على ما تقدم معناه مصادرة هذه الحرية فعلى سبيل المثال تنص المادة (38) من الدستور "تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام العام والآداب:
- حرية التعبير عن الرأي يكل الوسائل.
- حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.
- حرية الاجتماع والتظاهر السلمي وتنظم بقانون." وقراءة النص المتقدم تكشف إن حرية التظاهر الاجتماع تحتاج إلى قانون ينظمها أما حرية التعبير عن الرأي مثلا فلا تحتاج إلى قانون مستقل قد يحد منها أكثر من الحدود التي رسمها الدستور المتمثلة بعدم التعارض مع النظام والآداب العامة، لذا نجد ان سعي الحكومة إلى إصدار قانون الجرائم الالكترونية إن تطرق لحدود الحرية فسيكون محض تعسف باستخدام السلطة وانحراف عن الإرادة العامة التي عبر عنها صريح النص الدستوري وينبغي الاكتفاء بمعاقبة من يتعرض لحرية الغير بوسائل الكترونية فحسب بوصفه اعتداء على حريات الآخرين.