في عصر العولمة والتطور التكنولوجي وهيمنة شبكات التواصل الاجتماعي، أصبح الاغتراب حالة عامة ولكن بمستويات مختلفة، ويظهر ذلك في ضعف الانتماء في مختلف المستويات الاجتماعية واختلال الهوية وضبابيتها وفقدان بوصلة الشخصية المستقرة.
واستمرار لهذا الموضوع سنبحث طرق تحقيق الانتماء العميق والوصول الى الهوية الحقيقية او تحقيق الهوية المنتمية.
دور اللامبالاة في الانتماء والهوية
موضوع الانتماء والهوية بالغ التعقيد في عالم اليوم، والاغتراب ينكشف في عدم انتماء الشخص وعدم اندماجه وارتباطه بالمجتمع ارتباطا عميقا وإيجابيا، فالإنسان تتشكل هويته الحقيقية والمستقرة من خلال اندماجه وارتباطه الاجتماعي، وعندما لا يتحقق اندماج الفرد اندماجا أخلاقيا منتظما، ويرتفع مستوى ارتباطه بالمجتمع سوف تكون هويته زائفة نتيجة اختلال في عملية تشكيل الهوية.
وقد ذكرنا أن اختلال الهوية أحد أسبابه الرئيسية هو التفكك الاجتماعي الذي تسببت به التكنولوجيا، وأدت إلى تشكيل هويات زائفة وغير حقيقية، فيفقد الإنسان شعوره بوجوده وغايته في الحياة.
وتؤدي اللامبالاة إلى غياب الانتماء واختلال الهوية، وقد يؤدي غياب الانتماء واختلال الهوية إلى اللامبالاة، لأن اللامبالاة هي نتيجة لغياب الانتماء وعدم تحقيق الهوية، فالفرد الذي لايشعر بانتمائه لهذا المجتمع، لا يهتم بقضاياه ولا يرتبط به.
هناك أسباب تؤدي بالشخص إلى اختلال انتمائه وهويته وبالتالي تكرس اللامبالاة في سلوكياته، منها:
تشكيل الهوية الجبرية المستلَبة
أولا: الاندماج القسري والإدماج القهري، مما يؤدي إلى تشكيل هوية جبرية مستلبة، غير مختارة، فالتربية التي ينشأ عليها الإنسان كانت جبرية حيث ولا يرتبط مع مجتمعه بوعيه وإدراكه وتفكيره المستقل، بل يرتبط قسريا، فالتربية تُفرض عليه، وكذلك مختلف اشكال السلوك مثل العلم والتعليم والاعراف والعادات.
فهذه السلوكيات يمارسها بسبب القسر والإجبار، وليس من باب الاقتناع والوعي والتفكير بهذه العادات والسلوكيات والأفكار والقيم الاجتماعية، لذلك يكون إدماجه قهريا واندماجه قسريا، فتكون هويته جامدة ومتصلبة، هوية ليست فيها إرادة ولا محتوى، وغير منتِجة، هذا الأمر يجعل الفرد ينشأ وهو غير مهتم بقضايا المجتمع الأخلاقية والأساسية لأنه لا يشعر بها شعورا حقيقيا ينبع من اختياره.
وغالبا ما يحدث تشكيل الهوية الجبرية في أجواء استبدادية، لأن الإنسان في الجو الاستبدادي ينشأ على فكر الحاكم المستبد الطاغية الظالم، فالهويات تكون مستنسَخة وتتشكل على شكل الحاكم الفرعون المستبد الظالم الذي يستلب إرادة الناس بالإدماج القسري حيث تختل هوية الشخص ويُصبح بلا هوية، بسبب البيئة المستبدة التي تبدأ بالحاكم ثم في المؤسسات والمدارس ومن ثم في المؤسسة الاسرية، لأن العوائل تخشى من أن يفكر أبناؤها بطريقة مستقلة وبوعي، خوفا من قمع الحاكم المستبد الظالم.
فيكون هناك تثبيط ضد تشكيل الهوية المستقلة، فكل شيء يُراد له أن يكون على هوية الحاكم ومطابقا لها، لذلك تصبح الهوية مختلّة بلا إرادة حرة، وهذا من أكبر المشكلات التي تعيشها المجتمعات المستبدة، وحتى عندما تتخلص من الجو الاستبدادي إلى جو أكثر حرية، يتكرر نفس الإرث الذي كان موجودا في السابق، لأن الناس اعتادوا هذه الطريقة، حيث لا انتماء ولا هوية حقيقية.
وبغض النظر عن وجود نظام استبدادي، هناك بعض الأسر تمارس استبدادها على أبنائها بشكل قسري، فتفقده هويته، وينتج ذلك ان الفرد الذي ينشأ في أجواء الاستبداد تصبح عنده حالة نفسية مضطربة، ومستقبلا سوف يمارس الاستبداد والعنف والنفاق الذي يعد نتيجة حتمية من نتائج الاستبداد، لأنه بالنتيجة يضطر إلى أن يتلون بأشكال مختلفة حتى يستطيع أن ينجو كما يتصور هو وبذلك فانه لا يملك إرادة حقيقية، ولا تفكير مستقل.
مشاكل الانتماء الوهمي
ثانيا: الانتماء الوهمي لغياب الروابط الاجتماعية العميقة وحضور الأمور الشكلية، خصوصا عندما يتكون الانتماء الوهمي في الأسر المفكّكة، وهي الأسر التي لا يوجد فيها ارتباط حقيقي بين الأب والأم (الزوجان) وبين الأب والأبناء، وبين الأم والأبناء، أي عدم وجود أسرة حقيقية، فهناك انفصال في منظومة القيم وانفصال في الارتباطات والعلاقات العاطفية.
وبغياب المشاعر المتفاعلة تصبح مجرد أسرة شكلية، ويكون الانتماء فيها هو انتماء وهمي، حيث يصبح ارتباطا الفرد جسديا سطحيا وليس معنويا عميقا.
التبعية المطلقة ومساوئها
ثالثا: الانتماء التبعي الذي يسلب استقلالية الفرد ووجوده الإنساني، معتمدا على الولاء الأعمى، حيث يتعرض هذا الإنسان للتبعية المطلقة في حياته، ولا ينشأ كونه فردا مستقلا، فيكون انتماؤه تقليدي، وليس فيه تفكير ولا قناعة حقيقية، وإنما من باب الإجبار على هذا الشيء، وهذا هو الولاء الأعمى.
وهذه النقطة لها ارتباط واضح بالنقطة الأولى التي تطرقنا فيها لبيئة الاستبداد حيث ينتج عنها هوية التبعية، فيكون تابعا في تفكيره وسلوكه، وحتى لو اختفى هذا المتبوع فإنه يبحث عن متبوع ثانٍ يعبده، ويسيرُ وراءه فالخنوع يصبح حالة ثابتة.
لقد علّمنا أهل البيت (عليهم السلام) أن نؤمن بقناعة وحرية واختيار وتفكير، لأنه هذا هو الطريق الصحيح الذي رسمه الله سبحانه وتعالى لنا في الحياة.
وقال تعالى في كتابه الحكيم: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) الأنعام: ٩٨. وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: (فمستقر ومستودع): أما المستقر الذي يثبت على الإيمان، والمستودع المعار.
عواقب الانتماء الفوضوي
رابعا: الانتماء الفوضوي غير العقلاني، وعدم وجود ترابط حقيقي نتيجة للانتماء القسري أو الوهمي، وسوف يؤدي ذلك إلى الانتماء الفوضوي، حيث يتم الانتماء إلى أشكال وهيئات وجماعات مختلفة، حتى يستطيع الفرد أن يجد نفسه في هذه الجماعات، على سبيل المثال الانتماء إلى الجماعات المتشددة العنيفة، والجماعات الإرهابية والانتماء للعصابات، ولجماعات الأصدقاء السيئين.
الانتماء غريزة طبيعية، والغريزة هي التي تدفع الإنسان نحو الانتماء إلى جهة معينة، فإذا لم يكن منتميا بصورة صحيحة، يصبح منتميا بصورة سيئة لجماعة ما، لذلك فإن لم تقم الأسرة او المجتمع باحتواءه بطريقة مستقيمة فانه سينتمي إلى جماعة إجرامية او إرهابية لكي يشعر بالقوة والحماية، ومن ثم فقد ينتقم من المجتمع تعويضا عن ضياع الهوية، وعدم وجود انتماء حقيقي.
متى تتشكّل الهوية القلقة؟
خامسا: الانتماء المصلحي والانتهازي، حيث ينتمي الانسان للجو الاجتماعي أو الأسري أو للجماعات انتماءً يبحث عن المصلحة الخاصة، فيكون انتهازيا وهذا من صفات المنافقين، فيكون انتماؤه غير حقيقي، أو انتماء ليس فيه استقامة ولا مبادئ، فتتشكل لديه هوية مفككة وغير مستقرة أو هوية قلقة وهي من أكثر الهويات التي من الصعب عليها أن تجد طريقها في الحياة، لأن حاملها ينظر إلى المستقبل بشكل قاتم.
هذا النوع من الناس يسيطر عليه القلق من المستقبل، لأنه لا يمتلك الانتماء الحقيقي للمجتمع ولا يشعر به، ويشعر بأن المكان الذي يعيش فيه لا يوفر له الطريقة التي يريدها في الحياة، وهذا ينتج عن عدم وجود ارتباط مبدئي وإنما ارتباط مصلحي وانتهازي، تماما كالإنسان الذي يعمل في شركة تجارية أو في مؤسسة حكومية، يكون انتماؤه لهما نابعا من البحث عن المصلحة والحصول على مردود مادي، وليس من خلال الإيمان بهذه المؤسسة، أو الشركة أو القطاع، فيكون قلِقا في وظيفته دائما، ولا يشعر بالاستقرار فيها، لأن انتماؤه انتماء مصلحي، ولا يكون عنده ولاء جيد وإنما ولاؤه مهزوز.
الشركات والمؤسسات الناجحة هي التي ترتبط مع أفرادها ارتباطا قائما على المبادئ والارتباط العاطفي والشراكة، بحيث يشعر بانتمائه ووجوده الحقيقي في هذه المؤسسة أو الجماعة، وهذه هي نتيجة الانتماء الحقيقي للمؤسسة التي ستجعله منتِجا، ومبتكرا، ومبدعا، أما الذي ينتمي بدافع المصلحة والراتب الذي يحصل عليه فقط، فلا يكون لديه انتاج ولا ابتكار ولا إبداع في عمله.
الارتباط المعنوي
وعن الإمام علي (عليه السلام): (مودة أبناء الدنيا تزول لأدنى عارض يعرض)، لأنها نتيجة ارتباط دنيوي قائم على المصالح المادية وعلى الانتفاع المادي، وبمجرد أن ينقطع راتبه أو يقل ينقطع ارتباطه ومودّته مع الجمع كالأسرة أو المجتمع.
وقد تكون لديه مجموعة من الأصدقاء حيث تقوم على اللهو والأنس والمتعة وليست على وجود ارتباطات معنوية أو ارتباط إيماني قائم على قضايا مبدئية وإنسانية، وإنما مجرد ارتباط قائم على المادة وحين تحدث أية مشكلة بين الطرفين سيدخلون في صراع عنيف جدا، ويتقاتلون فيما بينهم ثم بالنتيجة ينتهي هذا الارتباط.
والارتباط الحقيقي الذي يحتاجه الإنسان، هو الارتباط المعنوي والإيماني، لذا الإيمان بالله سبحانه وتعالى هو أقوى أنواع الارتباطات والانتماءات، وبالنتيجة تحصيل الهوية الحقيقية في المجتمع.
وعن الامام علي (عليه السلام): (لكل إخاء منقطع إلا إخاء كان على غير الطمع).
صناعة الانتماء بناء الهوية
وبما أننا نحتاج إلى انتماء في المجتمع كغريزة أساسية، وهذا هدف وجودي في حياة الإنسان حيث يوجد في داخل وفطرة الإنسان هدف وجودي لابد أن يكون الانتماء عندنا صناعة، والهوية بناء، وهي عملية تراكمية حتى نبني ونصنع الإنسان الصالح في الحياة، المشكلة الأساسية انها ليست صناعة مبرمجة بل مجرد عملية عشوائية فوضوية.
ان فوضوية المجتمع نتيجة للبناء العشوائي، أو اللّا بناء، فالكثير من الناس يشتكون من أن مجتمعنا اليوم يعيش في فوضى، ولكن لابد من ادراك ان هذا يحصل نتيجة لعدم البناء الصحيح، الذي تبدأ اللبنة الأولى من خلال التربية الصالحة النابعة من ثقافة حقيقية بأهمية التربية، كونها المبدأ الأساسي الذي ينتهي إلى الصلاح عند الإنسان والمجتمع.
كيف يمكن تحقيق الهوية المنتمية؟
لابد ان ندرك ان نشأة الانسان الصالح يحصل عبر بناء هوية مستقرة تنظر إلى المستقبل بجمال وبأمل وحبّ وتوكّل على الله تعالى، والتسليم له سبحانه تعالى، لذلك هناك مجموعة من الخطوات اللازمة لتنشئة الانتماء وبناء الهوية المستقرة، وليست القلقة التي تخشى المستقبل وتنظر إليه بقتامة، وهي:
الانتماء الاجتماعي بالأخوّة
الخطوة الأولى: العمل لبناء ثقافة الانتماء النابع من إيمان حقيقي وإرادة حرة من خلال التربية الصالحة، والحوار العقلاني، عبر تحكيم مبدأ ونظام الأخوّة. وجاء في الآية القرآنية: (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم تُرحمون) الحجرات 10. إن مجتمعات الرحمة تُبنى من خلال الأخوة، وإذا أردنا أن نبني مجتمعات الرحمة لابد من وجود التقوى التي تحقق الأخوة وبالعكس، فكلاهما متلازمان وكلاهما يُنتج الإصلاح، فالإصلاح لا يستهدف الفساد فقط وإنما هي عملية ترميم اجتماعي مستدام يهدف الى بناء تراكمي للمجتمع، فالبناء والترميم يعملان معا لتحقيق الإصلاح، فالأخوة تؤدي الى التقوى، والتقوى تمهد للإخوة، وبالنتيجة التقوى تفتح ابواب الإصلاح، وهذه الرباعية هي المفاتيح لمجتمع الرحمة التي تؤسس الانتماء الحقيقي.
إننا نحتاج إلى الحوار لانه هو الذي يصنع التفكير وهو الذي يؤكد الإرادة الحرة عند الإنسان، وقدرته على إدراكه للآخرين وفهمه لهم والتفاهم معهم، عبر أسرة ومجتمع تحكمه قواعد الصبر، وتحمّل الآخر والحرص على الاستماع وحسن الكلام مع الآخرين لكي يتحقق الهدف الذي يتمثل ببناء ثقافة الانتماء.
الإنصاف والاحترام والثقة
الخطوة الثانية: بناء العلاقات الإجتماعية بين الأفراد والقائمة على الانصاف والاحترام والثقة، فالذي يشعر بهذه القيم ويكون مُنصفاً في قضاياه من المجتمع ويشعر بالعدالة والثقة والاحترام، سوف يكون منتميا مؤمنا بهذا المجتمع.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (تحتاج الإخوة فيما بينهم إلى ثلاثة أشياء، فإن استعملوها وإلا تباينوا وتباغضوا، وهي: التناصف، والتراحم، ونفي الحسد)، وإذا لم تكن لدينا هذه القيم التي تمسك المجتمع وتحقق الأخوة، فإن ذلك يؤدي إلى التباغض والتباين والتنافر والصراع بل حتى القتال بين أفراد المجتمع.
لابد من وجود الإنصاف المتبادَل، وهو العدل النابع من وعي الإنسان وحركته الذاتية ومبادرته في تحقيق العدل، وليس بطريقة الفرض عليه، في بعض الأحيان نلاحظ أن الإنسان يعاني من فرض القانون عليه، فلا يقتنع به بل يخاف منه، كذلك هناك بعض الناس يُفرَض عليهم العدل بسبب قوة الدولة أو قوة الأمن، لكن الإنصاف هو حركة ذاتية وإيمان من قبل الإنسان بالعدالة، ثم يبادر بنفسه في عملية تحقيق العدل من خلال إنصافه للناس من نفسه، اي ينبع من نفس وذات الإنسان، ابتداء منه لتحقيق العدل.
هذا هو معنى العدل الحقيقي، أن يكون الإنسان منصفا، ولو انتشر الإنصاف بين الناس لانتشر العدل وساد بينهم، التناصف، والتراحم.
وكذلك تنمية العلاقات الاجتماعية بعمق من خلال اخلاقيات العطاء والتضحية والإحسان والايثار. وهي القوة الأكبر لترسيخ الانتماء وبناء الهوية. كما نرى ذلك في احياء المناسبات الدينية.
يقول سماحة المرجع الديني السيد صادق الشيرازي: (المطلوب من كل واحد منا تقوية العلاقة مع المجتمع، وذلك عن طريق الالتزام بالأخلاق الإسلامية كالاحترام والتواضع والبشر والكرم والعفو والرحمة وصلة الرحم).
الانتماء باللاعنف
الخطوة الثالثة: بناء علاقات اجتماعية قائمة على الرحمة والرفق واللاعنف، والانتماء كما ذكرنا سابقا يجب أن لا يكون قسريا، بل اقتناعيا، لذلك نحتاج إلى اللاعنف واللين والتصرّف برفق مع الآخرين، حتى يشعر بوجود ارتباطه الحر مع المجتمع، وتوجد لدينا احاديث شريفة كثيرة في هذا الباب، فعن الإمام الباقر (عليه السلام):
(إن الله عز وجل رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)، لأن الرفق نابع من الله سبحانه وتعالى، لذلك فإن كل شيء عنيف يخالف رحمة الله سبحانه وتعالى، لذلك فإن الإنسان العنيف منبوذ، والله لا يقبله كونه عنيفا وغير جيد، لأن الكون كله قائم على الرحمة وعلى التعامل الرحيم فيما بين الناس.
فكل عطايا الله تعالى تأتي من خلال سلوك الرحمة والرفق، فالإنسان الذي يريد العطاء الحقيقي في الحياة يجب أن يمتلك أسلوب اللاعنف والرحمة، ونبذ العنف بكل أشكاله، العنف المادي واللفظي والقلبي، فلا يبقى أي كراهية في قلب الإنسان. ويجب العمل باللاعنف المطلق، وهذا هو المعنى الدقيق للرفق، لأنه نابع من رحمة الله سبحانه وتعالى. وهذه كلها مفاتيح للبناء الحقيقي للمجتمع وتحصيل الهوية الجامعة المستقرة غير القلقة.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (عليك بالرفق فإنه مفتاح الصواب وسجية اولي الألباب)، و(الرفق مفتاح النجاح).
الإنسان العنيف ليس بعاقل
فالرفق هو الذي يفتح لك أبواب الحقيقة وأبواب الواقع الحقيقي، وأبواب الصواب والتسديد، ويؤدي الى بناء سلوكيات وصفات العقلاء الذين يستخدمون عقولهم في أسلوب حياتهم، فالعقل يقود نحو الرفق، والرفق يفتح الطريق للعقل.
وعن الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله): (أعقل الناس أشدهم مداراة للناس).
فالإنسان الذي لا يستخدم عقله أو أنه يلجأ للعنف فهو ليس بعاقل، لذلك يأتي الرفق في مقابل العنف كما في الأحاديث الشريفة، وفي القواميس اللغوية، فإن الرفق يقابله العنف، والعنف هو الخرق، بمعنى الجهل والسفاهة والغباء أيضا، لأن الإنسان في هذه الحالة يكون دائما متناقضا مع عقله، فإذا لاحظتَ إنسانا يدّعي بأنه عاقل لكنه في نفس الوقت عنيف، فهو ليس بعاقل، وهذا ما نجده في الروايات الشريفة وفي سيرة العقلاء والمصلحين والمفكرين.
وعنه (صلى الله عليه وآله): (إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه).
الانتماء بالاعتدال
الخطوة الرابعة: وجود علاقات اجتماعية قائمة على الاعتدال ونبذ التعصب والتشدد، لأن الاعتدال هو الذي يوفّر توازنات حقيقية في المجتمع، فيفسح المجال لعملية السلام الاجتماعي والسلام الداخلي في المجتمع، لأننا إذا كنا في مجتمع فيه تعصّب وتشدد سوف تحدث لدينا عملية فئوية، وتحدث صراعات بين جماعات مختلفة أو أحزاب أو عشائر أو أحياء أو مدن، يتصارعون فيما بينهم والسبب لأنه كل طرف منهم يتعصب لنفسه، ولأفكاره ولقضاياه، لذلك سوف يؤدي هذا إلى عملية اختلال في الانتماء والهوية.
وعنه (صلى الله عليه وآله): (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى).
فمعنى الدين هو الرفق وعدم التعصب والتشدد، فإذا كان هناك تعصب وتشدد وعدم وجود رفق في هذا الدين، فإنه يُصبح دينا لأناس يستغلون الدين لمصالحهم الخاصة.
وعن الامام علي (عليه السلام): (إنما سمي الرفيق رفيقا لأنه يرفقك على صلاح دينك فمن أعانك على صلاح دينك فهو الرفيق الشفيق).
لذلك فإن إكراه الناس على عبادة الله يكون بلا نتيجة، وفي المقابل هناك حاجة إلى مشاريع أخلاقية وثقافية وتربوية كبيرة، لنشر ثقافة تحقيق الهوية وترسيخ الانتماء الحقيقي والواقعي، لأن الهوية والانتماء هما اللذان يبنيان الوطن والمواطنة.