مشكلة التربية الأخلاقية في المجتمع العراقي (الوسط-جنوبي) أنموذجا
تعد التربية المجتمعية بالنسبة للفرد، هي عملية تطبيع اجتماعي، ينتج عنها إكسابه الصفة الإنسانية التي يتميز بها عن سائر الحيوانات، فالفرد يكسب صفاته ومكونات سلوكه الاجتماعي والنفسي، والذي تبتني عليها شخصيته، عن طريق التنشئة الاجتماعية، والتربية الأسرية.
لذا، تعد التربية عملية اجتماعية تختص بتهيئة الوسائل المختلفة لتحقيق إمكانيات النمو لدى الفرد في مختلف مراحل نموه العمرية، فالمجتمع ومؤسساته المختلفة، هي التي تمد الفرد بمختلف أنواع المثيرات، والتي تقوده لاستجابات نمطية محددة، بمعنى أن الفرد يمر في نسقه التربوي بعملية تعليمية يكتسب منها الاستجابات السلوكية التي يواجه بها مواقف الحياة، وهذه المواقف والاستجابات تختلف حسب الزمان والمكان، ومن مجتمع إلى آخر.
من جانب آخر، نجد إن عملية التربية تضطلع بمهمة حفظ المجتمع وتجديده، من خلال عملية نقل التراث الأخلاقي والتربوي والإنساني؛ فوجود المجتمعات الإنسانية واستمرارها، يتوقف على عملية النقل الثقافي، وهذا النقل يتم بانتقال عادات العمل والتفكير والشعور وآليات الانفعال والتفاعل مع الإحداث، من الكبار إلى الناشئين.
إذن، فاختلاف عالم المجتمع الإنساني عن المجتمع الحيواني، يتمثل في إحدى تمثلاته بان الأخير لا تحصل فيه عملية انفعال وتفاعل تمكن الأفراد من هضم العادات والتقاليد، كأطر سلوكية لفعل اجتماعي عام، يتم تبنيه ونقله كخبرات وقصص وقواعد تربية، وهذا ما لا يحصل في عالم الحيوان.
إن الغزو الثقافي اليوم، يحاول ان يذيب ويصهر ادوات التربية، من خلال ايجاد وعي ثقافي (تصادمي) خاضع وتابع ذليل لمفهوم التسامح الاجتماعي.!
يعتبر الوعي الأخلاقي كمرحلة أولى ومهمة من مراحل السلوك الاجتماعي الأخلاقي، وهو القدرة على رؤية المعضلة الأخلاقية، ومقدار الدور الذي يمكن لتصرفاتنا أن تؤثر فيه على الآخرين. وينطوي الوعي الأخلاقي أيضا على إدراك العناصر ذات الصلة بالحالة الاجتماعية، وبناء تفسير استنادا إلى تلك العناصر.
بمعنى آخر، إن الوعي الأخلاقي، هو الذاكرة المعيارية التي تستدعيها حالة الفعل الاجتماعي للأفراد، في مواقف الحياة اليومية، حيث يكون السلوك الناتج من الأفراد، عبارة عن مخرجات لحالة الوعي الأخلاقي.
يبنى الوعي الأخلاقي في المجتمع من خلال أدوات تفاعلية نفسية، وقانونية (القانونية التي تمثل ضغط العرف الاجتماعي، والقانونية التي تمثل ضغط فواعل القوى المؤثرة في المجتمع، ومنها الدولة، الدين، الوجهاء، أصحاب السلطة المعرفية).
ولكل مجتمع ضوابط صارمة يحاول أفراده التعاقد على إتباعها والقبول بها، تملك عوامل الحفاظ على وجودها واستمراريتها بأدوات ردع قد تكون ذاتية، وقد تكون خارجية، ويعتبر التسامح الاجتماعي، إحدى أهم الأدوات التي تحاول أن تدعم وتقوي العلاقات الاجتماعية.
ومع اهمية مفهوم التسامح الاجتماعي، كأداة من أدوات إيجاد وتكوين الوعي الأخلاقي في المجتمع، إلا أنه يمثل سلاح ذو حدين، يتم استغلاله من خلال عدة نوافذ: دينية، قانونية وضعية، عرفية اجتماعية.
وكما ذكرنا سابقا، أن التسامح الاجتماعي يعد بذاته قيمة أخلاقية تدعم العلاقات الاجتماعية، وأشكال التفاعل الاجتماعي المرغوبة بين مختلف أشكال الجماعات، كونه ينطوي على مشاعر الحب والمودة، ويتجاوز الإساءة والتفاهم، ويقرب وجهات النظر، من أجل التحرر من الكراهية والحقد وقبول الآخر المختلف معنا في الرأي والفكر والأسلوب.
ما يحصل اليوم في مجتمعنا هو محاولة لضرب الوعي الأخلاقي للأفراد والجماعات من خلال ضخ معاني ومفاهيم متناقضة ومتطرفة في مفهوم التسامح الاجتماعي، حتى تحول التسامح الاجتماعي إلى آلية خفية لضرب الوعي الأخلاقي.!
يقوم الوعي الأخلاقي على مبدأ مهم جدا، ألا وهو مبدأ (الصرامة الخلقية)، فالصرامة الأخلاقية، هي التي تخلق إطار وحدود يتقيد بها الوعي الأخلاقي المجتمعي، ومحاولة الإسفاف والمبالغة في تقدير مفاهيم التسامح الاجتماعي، قادت إلى نوع من أنواع التساهل مع الذات، والتساهل مع الانحرافات الأخلاقية التي تتجاوز إطار الصرامة الأخلاقية للمجتمع.
استطاع الوجه السلبي لمفاهيم التسامح الاجتماعي أن يتغلغل في مجتمعاتنا من خلال فواعل قيمية ثلاثة، جاء في مقدمتها محاولات التجديد التي خضع لها هذا المصطلح، من خلال فلسفات وثقافات غربية، تأطرت بأطر قانونية معلبة، حاولت الجهات المصدرة لها توزيعها على كل الوجودات البشرية، كقيمة حضارية عليا، فأصبح مفهوم التسامح التابع لهذه المدرسة، يمثل كمعول هدم لكل أدوات الوعي الأخلاقي القائم على الصرامة الأخلاقية، بل وأصبح مفهوم التسامح الذي تم استيراده بأشكاله الثقافية الغربية، يمثل هو القيمة الأخلاقية العليا التي تحاول ضرب كل قيم الانضباط الأخرى في المجتمع.!
الفاعل القيمي الثاني الذي ساهم في انتشار الوجه السلبي للتسامح المجتمعي، هو نمط من أنماط فهم الدين، من خلال سيطرة موجة قوية جدا من دعوات التسامح، وتوظيف واستثمار كل الشواهد الدينية التي تدعو للتسامح وغض النظر، وعدم التصادم القيمي والأخلاقي في المجتمع، مما ساهمت بشكل كبير نسبيا في سيطرة الوجه السلبي للتسامح المجتمعي.
الفاعل الثالث والأهم، هو العرف الاجتماعي العشائري، والذي ساهم بأدواته القسرية الكثيرة، لجعل مسألة العفو عن المخالفات، كأداة من أدوات تضعيف وتوهين الصرامة الأخلاقية في المجتمع.
إن الوعي الأخلاقي ليس هبة فطرية تجود بها الطبيعة على قوم دون قوم أو فرد دون الآخر، بل هي عادة مكتسبة تحصل تحت تأثير التربية والقدوة الصالحة، وحين يدقق المجتمع في محاسبة أفراده، وحين يرفض الأفراد أنفسهم مبدأ التساهل مع الذات ومع الآخرين، هنا تأتي الصرامة الخلقية لتزيد من إحساس الأفراد بالقيم، وتساهم بخلق الإطار الاجتماعي الساند للصرامة الأخلاقية، مما يقود أفراد المجتمع إلى التمسك بالمبادئ الأخلاقية، وتنمية الوعي الخلقي لدى الأفراد أو الجماعات.
إن مبدأ الإفراط في التعاطي مع مبدأ التسامح الاجتماعي بوجهه السلبي المتراخي، سيقود إلى إفقاد المجتمع وأدواته الضابطة، إلى التمكن من خلق واستمرار أدوات فرض العقوبات على جرائم الإهمال والتهاون، بينما في حالة وضع حدود ضابط معينة موضوعية لمبدأ التسامح الاجتماعي، سيساعد على خلق جواً روحيا مؤاتيا لأخلاق الصرامة وعدم التساهل مع الذات.
لا بد لنا اليوم من العمل على تنمية روح الصرامة الخلقية حتى لا يبقى مجتمعنا كما عرف عنه مجتمع متساهلا متهاونا بحكمة، ولا يرى مانعا من التسامح مع المخطئين والعابثين، فمجتمع متسامح بمؤسساته الانضباطية، لا يمكن له أن يكون إلا مجتمعا منحلا متفككا!
ولهذا فإن الإصلاح الخلقي متوقف إلى حد كبير على نمو الوعي الخلقي، الذي يتعامل بحذر منهجي دقيق مع مفاهيم التسامح الاجتماعي، ويحاول في الوقت نفسه، زيادة حظ الأفراد أو الجماعات من الوعي الأخلاقي القائم على الإيمان بالصرامة الأخلاقية.