كحال كل الشعوب شديدة الاستقطاب، أنقسم العراقيون (غالبا) الى فريقين أحدهما مؤيد والآخر مندد بالحرب التي شنها الروس على الاوكران. ولان الحرب كما يقول كلاوزفتزه هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى فأننا نحتاج ان نفهم سبب انقسامنا السياسي الذي أدى لانقسامنا في الرأي حتى تحولت مواقع التواصل الى جبهات حربية مشتعلة بين أنصار هذا الفريق وذاك، علمياً فأن تقويمنا لموقف او شخص ما يتحدد باتجاهاتنا النفسية نحوه. والاتجاهات كما يُجمع علماء النفس تتكون من ثلاث مكونات هي:
1) المكون العقلي، اي مقدار ما نعرفه (المعلومات والمعتقدات) عن ذلك الشخص أو الموقف.
2) المكون الانفعالي، اي ما نشعر به من حب او كره تجاه ذلك الموقف او الشخص.
3) المكون السلوكي الذي يمثل السلوك المحتمل (وليس المؤكد) الذي سنتبناه بناء على تفاعل كل من معلوماتنا وانفعالاتنا مع الموقف.
لتبسيط الموضوع فأن اتجاهاتنا واحكامنا نحو الحرب في اوكرانيا، أو حتى غيرها من المواقف تتحدد في ضوء تفاعل معلوماتنا او معرفتنا بكل اطراف الموقف (روسيا، اوكرانيا، اميركا واوروبا، الحروب السابقة…الخ) مع انفعالاتنا أو شعورنا (الحب والكره والقيم المعنوية التي نمتلك).
هذا التفاعل المعرفي-الانفعالي هو الذي سيحدد موقفنا السلوكي على الرغم من انه ليس بالضرورة يحدد سلوكنا الفعلي لان السلوك الفعلي لا يتأثر فقط باتجاهاتنا وانما بتقييمنا لاتجاهات الاخرين. فنحن قد نكوّن اتجاه ايجابي نحو روسيا لكننا نخشى إظهاره في مجموعة او مجتمع معين لأننا نعلم انهم سيكرهوننا اذا افصحنا عن موقفنا الحقيقي.
ولأسباب جغرافية وتاريخية واجتماعية ونفسية، فأن العراقيين، مثل كثير من الشعوب في العالم يُعطون ثقلاً أكبر للمكون الانفعالي(الشعوري) في اتجاهاتهم على حساب المكون المعرفي. بمعنى ان مقولة (حب وأحجي وأكره وأحجي) تنطبق كثيراً على سلوكنا. مثلاً تجد الكثير من المتطاعنين على شبكات التواصل يُفتي بأشياء لا يعرفها بخصوص قوة طرفي النزاع وقدراتهما الاقتصادية وغيرها من المعلومات التي يحتاجها مكونّه العقلي المعرفي للحكم على الموقف، وتراه ويتحول الى ليدل هارت او كلاوزفتزه لان مكونه الشعوري (حبه او كرهه او قيمه) تدفعه لإصدار أحكام غير موضوعية فقط كي يشعر براحة نفسية.
أنه يرى الامور مثلما يراها حين يتابع فريقه المفضل ويؤيده لأنه يحبه لا لانه يلعب أفضل. وأذا كان المكون المعرفي لأحكامنا يتأثر بثقافتنا ومعارفنا وقراءاتنا وخبراتنا (السابقة والحاضرة وما نتوقعه للمستقبل)، فان المكون الانفعالي(الشعوري) غالباً ما يتأثر بخبراتنا الحياتية وتنشأتنا الاجتماعية، مركزا على البعد التاريخي للخبرة.
فتجربتنا السيئة مثلا مع امريكا واحتلالها للعراق وقتلها للابرياء منذ الحصار ثم الاحتلال، وتسببها في نظام الحكم البائس الذي نعاني منه فضلا عن تجاربها السيئة الكثيرة مع العرب والمسلمين تجعل الكثيرين لا يكرهون أمريكا فحسب بل يناصرون كل من يحاربها ويعادون كل من يواليها.
من جانب آخر فأن تقدير ثقافتنا الشرقية لأهمية قيمة القوة والشجاعة والكرامة تجعلنا نحب (في تقييمنا السلوكي العاطفي) كل ما يمثل هذه القيم ويتبناها. لذا يحب الكثيرون بوتين لأنه قوي وشجاع ولم يرضخ لأمريكا وسواها من القيم التي تدخل ضمن المكون الشعوري لاتجاهاتنا. والمفارقة في شعور هؤلاء الاشخاص ان الحرب (كقيمة سلوكية) كان ينبغي ان تكون مرفوضة وفق المعايير الانسانية، لكن لأننا ننتمي لثقافة لا ترى في الحرب ضيرا، ولا في القتال مثلبةً بل على العكس من ذلك تعليهما وتؤكد عليهما فان المكون الشعوري الوجداني لدينا لا يتأثر كثيراً بموضوع رفض الحرب.
أننا نربي أولادنا على أخذ حقهم بأيديهم، لا بالقانون وأن الخزي والعار ان لا ترد الصاع صاعين لمن يعتدي عليك جسديا او لفظيا او سواها!!من جانب آخر يجري أهمال (أو تقليل أهمية) المكون المعرفي في الحكم على الموقف بسبب شدة تأثير المكون الانفعالي. فحتى من يدرك ان حرب بوتين هي حرب خاسرة في النهاية وان كل الحسابات العقلية والدلائل الرقمية تشير الى انها حماقة من طراز حماقات حروب الطغاة التي ادت تاريخياً الى دمار شعوبهم وزوال مُلكهم، فأن الكثيرين لا يستطيعون مقاومة شعورهم الطاغي وحبهم الكبير لانتصار القيم التي يتبنونها والمشاعر التي يحتضنونها.
مثلاً يعتقد الكثيرون ان روسيا دولة عظمى يصعب تأثرها بالحصار والعقوبات الدولية دون ان تتوفر لديهم معطيات رقمية حقيقية عن حقيقة الاقتصاد الروسي الذي يقوم أكثر من 40% منه على تجارة البترول والغاز. كما ينسى الكثيرون الدماء السورية التي سفكها الجيش الروسي هناك.